سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
(السودان الجديد) في ذمة التاريخ..لماذا أطلقت الحركة الشعبية رصاصة الرحمة على مشروعها السياسي؟.. السودان يواجه تحدياً غير مسبوق، يتطلب حلول استثنائية يصنعها قادة استثنائيون..فهل يتقزم الشريكان في لحظة فارقة.؟
ربما يعد البيان الختامي لاجتماع المكتب السياسي للحركة الشعبية لتحرير السودان الذي انعقد بجوبا الأسبوع الماضي أهم وثيقة سياسية تصدرها الحركة منذ (المانفيستو) الشهير الذي أسس لمشروعها السياسي عند انطلاقتها قبل ربع قرن والداعي لرؤية (السودان الجديد) الشديدة الإيمان بوحدة السودان على ركائز مختلفة ومفارقة لتلك التي عرفتها الدولة الوطنية على مدى العقود الماضية. وأهمية البيان السياسي الجديد للحركة الشعبية تأتي من كونه قد وضع أخيراً النقاط على الحروف بشأن موقفها وخيارها في مسألة تقرير المصير الوشيكة، في وقت كانت تعج فيه الساحة السياسية السودانية بالتكهنات ويطغى عليها الغموض والضبابية والتساؤلات القلقة حول مستقبل البلاد وقد اقترب موعد أهم استحقاق تشهده منذ استقلالها قبل أكثر من خمسين عاماً. وفي حين أعلن شريكها، المؤتمر الوطني، انحيازه لصالح خيار الوحدة مع ما جره عليه ذلك من تساؤلات حول جديته وقد انقضت سنوات الانتقال دون عمل ملموس شديد الحرص على تجنب مزالق الانفصال، أو من اعتبر علو همة المؤتمر الوطني المفاجئة في أمر الوحدة مريباً وأنه لا يعدو أن يكون محاولة ل (تر اللوم) ومن باب إبراء الذمة والإعذار، واتقاء لعنات التاريخ للتفريط في حفظ كيان البلاد موحداً. ولئن كان ذلك شأن الشريك، فإن الحركة الشعبية ظلت في منزلة بين المنزلتين يائسة من الوحدة وزاهدة فيها، ولكنها في الوقت نفسه لا تدعو صراحة للانفصال وإن ظلت تحوم حول خياره حتى جاء بيان مكتبها السياسي ليضع النقاط على الحروف ويستبين موقفها التواق لإنشاء دولة منفصلة على أنقاض مشروعها السياسي للسودان الجديد الموحد. وتحت غبار كثيف من التبريرات كشفت الحركة الشعبية للمرة الأولى في بيانها السياسي الجديد عن تخليها عن رؤيتها الفكرية المركزية، وانسحابها من مشروعها السياسي للسودان الموحد على أسس جديدة حيث ورد في الفقرة الرابعة من البيان (وحيث يؤكد المكتب السياسي أن الخيار المفضل الذي ظلت تدعو له خلال ربع قرن من الزمان، وأكدته في مانفيستو الحركة في عام 2008، هو قيام سودان ديمقراطي وعلماني موحد طوعاً في ظل التنوع، بيد أن رغبة حزب المؤتمر الوطني في التمكين لنظام ديني لا ديمقراطي لا يضمن أدنى حقوق المواطنة التي كفلتها اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي لغير المسلمين من المواطنين، بل للمسلمين منهم الذين لا يشاركون المؤتمر الوطني رؤاه، أصبحت عائقاً لتحقيق الوحدة التي نبتغيها). وهذا النص الصريح الذي يؤكد أن الوحدة لم تعد خياراً للحركة الشعبية وهو ما يعني بالضرورة أن خيارها أصبح الانفصال، يثير تساؤلاً مهماً كيف لحركة سياسية ساعية للتغيير الجذري للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ترفع الراية البيضاء وتستسلم وتتخلى عن رؤيتها الفكرية ومشروعها السياسي لمجرد أن خصمها السياسي لم يتخل عن رغبته في التمكين لمشروعه السياسي، هذا الاعتراف الخطير الذي يورده البيان السياسي الجديد للحركة الشعبية عن سبب تخليها عن خيار الوحدة، لا يطرح تساؤلات حول جدية أطروحة الحركة الشعبية للسودان الجديد الموحد من الأساس فحسب، بل يسجل كذلك سابقة غير منظورة في التاريخ أن تنسحب حركة تغيير من مشروعها المركزي ليس بفعل تطور ذاتي تجدد به رؤيتها، ولكن بدعوى أن خصمها لم يتنازل عن مشروعه المقابل، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة مشروع المؤتمر الوطني السياسي وجدواه الوطنية للسودان، ولكن أليس بديهياً ألا يتنازل حزب سياسي عن مشروعه إلا إذا فقد الإيمان به، ثم أليس منطقياً أن تظل أية حركة تغيير جدية تدافع عن مشروعها في وجه خصومها ومحاولتهم إفشاله لأن تلك هي سنة المدافعة، كما أنها من صميم قواعد اللعبة. ربما ليس جديداً تماماً هذا الموقف المنسحب للحركة الشعبية من رؤيتها الوحدوية، ولعل الجديد الوحيد في هذا الخصوص هو التعبير عن هذا التحول الجذري في بيان سياسي هو الأول من نوعه منذ تبنيها لرؤية السودان الجديد، فقراءة تطورات الحركة على مدى العشرين عاماً الماضية مقروناً مع التطورات السياسية داخلها وفي المشهد السياسي السوداني بوجه عام يشير إلى أنها ظلت تتنازل وتتراجع عن رؤيتها الوحدوية للسودان، تارة استجابة لضغوط خارج إرادتها، وتارة تعبيراً عن قناعة قطاع عريض من قيادتها وقاعدتها، خلافاً لرؤية زعيمها الراجل جون قرنق الذي طالما وصف بأنه الوحدوي الوحيد في حركته، الذين يرون أن نضالها يجب أن يصب لصالح (تحرير الجنوب) وليس ل (تحرير السودان). ولعل التاريخ يسجل أن الترويج لبضاعة الانفصال في العقدين الماضيين هي صناعة شمالية بامتياز دافعها الانتهازية السياسية، وإن كان منشؤها جنوبياً، إذ ان مصطلح (تقرير المصير) للجنوب لم يطرق أبواب المشهد السياسي السوداني إلا مع مطلع العام 1992، في اتفاق فرانكفورت بين الدكتورين علي الحاج ولام أكول، بعد أشهر قليلة من انشقاق الناصر القائم على الدعوة لفصل واستقلال جنوب السودان، ولعل الرغبة في تعميق الانشقاق وسط الحركة وتقديم الدعم للمنشقين كانت وراء استخدام هذه الورقة الخطيرة، وهو أمر تنبهت له قيادة الحكم حينها ورفضته وانتقدته بشدة، لكنها لم تلبث أن تبنته بعد ذلك في اتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعتها عام 1997 مع الفصائل ذاتها المنشقة على زعامة قرنق والخارجة على رؤيته للسودان الجديد. وتعرضت زعامة قرنق ورؤيته لاختبار آخر أدى للمزيد من الانشقاقات في صفوف الحركة حينما تبنى وليم نون خيار تقرير المصير في مفاوضات أبوجا في 1993، وقد شكلت هذه الانشقاقات ضغوطاً قوية على قرنق الذي كان مدركاً للشعبية الواسعة للانفصال في حركته مما جعله يتبنى هو الأخر خيار تقرير المصير في مؤتمر القضايا المصيرية باستمرا في 1995 والذي أكمل حلقة القوى السياسية السودانية خاصة على صعيد المعارضة الشمالية لتبني فكرة تقرير المصير لتقوية تحالفها في مواجهة النظام الحاكم، لتصبح تقرير المصير منذ ذلك الحين أيقونة السياسة السودانية التي لا يمكن تجاوزها. ويبدو أن قرنق رأى حينها الانحناء للعاصفة الانفصالية الهوجاء في الأوساط الجنوبية، ورضخ للقبول مؤقتاً بفكرة تقرير المصير التي يدرك أنها تتعارض جذرياً مع رؤيته لسودان موحد على أسس جديدة، ولعله كان يراهن على أن شخصيته الكارزمية وقدراته القيادة ستمكنه من إعادة تصحيح هذا الوضع عن طريق إحداث تحول سياسي عبر اتفاقية السلام بما يؤدي إلى تشكيل نظام سياسي جديد قوامه تحالف عريض يقوده من قوى الهامش والمجموعات المعارضة لإنهاء سيطرة النخبة الحاكمة. ويقول إليكس دي وال الباحث المختص في الشؤون السودانية إن قرنق لم يؤيد في البداية مقترح إجراء انتخابات عند منتصف الفترة الانتقالية، لكنه راى فيها فيما بعد وسيلة لتحقيق الوحدة عن طريق اكتساح الحركة وحلفائها للانتخابات، ويضيف أن قرنق كان يدرك دائماً أن معظم الرأي العام الجنوبي انفصالياً، ولكن ما لم يكن واضحاً هو ما إذا كان قرنق يرى أن قيادته الشخصية ومكافأة السلام وتقدم الحركة الشعبية على المسرح السياسي القومي ستجعل الجنوبيين يؤيدون الوحدة، وربما كانت الصفقة التي كان يحملها هي الحصول على الرئاسة لنفسه مقابل الوحدة الوطنية، ويضيف دي وال أنه ما من أحد داخل الحركة بعد رحيل قرنق كان في موقف يمكنه من عرض صفقة كهذه. ولذلك يمكن القول إن رؤية السودان الجديد الموحد ليست سوى مشروع خاص بقرنق وبعض من خاصته، ولكنه لم يكن أبداً مشروع نخبة الحركة ولا عوامها، ولذلك ما أن غاب قرنق عن المسرح أو جرى تغييبه، حتى سارعت قيادة الحركة لقبر مشروعه الوحدوي معه، ولم يبق منه سوى صدى أصوات النخب الشمالية التي آمنت برؤيته وانضمت للحركة، وعند رحيل قرنق المفاجئ وصف كاتب هذه السطور ذلك بأنه إيذان ببداية (موسم هجرة الحركة الشعبية إلى الجنوب) متخلية عن مشروعها القومي، وقد كان، فقيادة الحركة الجديدة لم يكن لها من شاغل طوال سنوات الانتقال الماضية سوى انتظار حلول موعد الاستفتاء على تقرير المصير للتحلل من وعود الوحدة الجاذبة في اتفاقية السلام الشامل، وإكمال إجراءات الطلاق البائن. فالاحتجاجات التي اوردتها الحركة في بيان مكتبها السياسي لتبرير موقفها الجديد المتخلي عن رؤيتها لسودان موحد ليست مقنعة على الإطلاق، بل تبدو أقرب للاعتراف بالفشل في تنفيذ مشروعها إن كانت تؤمن به حقاً، أو استسلاماً أمام خصم عنيد لم يمكنها من ذلك. وربما كان من الأفضل لها سياسياً أن تعلن أنها لم تعد مؤمنة بمشروع الحركة الوحدوي، بغض النظر عن العقبات التي تواجهها، وأنها انتقلت إلى مربع جديد بقناعات جديدة بدلاً من التبرع بالتنازل وتقديم اعتراف مجاني بقوة شكيمة شريكها وخصمها اللدود. واللافت ان بيان الحركة السياسي لم يخل من بعض المغالطات لجهة إعادة فتح الجدل حول مسائل من المفترض أنه جرى حسمها في المفاوضات التي أنتجت التسوية التي قامت عليها اتفاقية السلام، فعودتها لطرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة واعتبارها عائقاً أمام تحقيق الوحدة أمراً ليس مبرراً لجهة أن فك الاشتباك بهذا الخصوص تحديداً بتبني صيغة نظامين في دولة واحدة كان هو صلب التسوية التي تم التوصل إليها في اتفاق مجاكوس الإطاري، ولقد جرى التأكيد على أولوية الحفاظ على وحدة السودان وأن مهمة جعلها جاذبة هي مسؤولية مشتركة للطرفين، وليس لطرف واحد، هي من صميم التسوية التي افضت للاتفاقية، ولذلك ليس للحركة النكوص عن موافقتها على صيغة التسوية هذه، ثم الاستناد عليها للتراجع عن موافقتها في الاتفاقية على تبني أولوية خيار الوحدة، فقد كانت هي الطرف الأساسي في إبرام هذه الصيغة، وبالتالي ليس لها الاحتجاج اليوم على ما وافقت عليه بالأمس، فقد كان بوسعها رفض هذه الصيغة للعلاقة بين الدين والدولة التي تبنتها في تسوية مجاكوس ابتداء. وربما كان أكثر مصداقية للحركة أن تطرح دعوة جادة لمراجعة أسس تلك التسوية فيما يخص علاقة الدين والدولة، أو الدعوة لتطويرها لآفاق جديدة من أجل الحفاظ على وحدة البلاد، بدلاً من التنكر جملة وتفصيلاً لصيغة كانت هي طرفاً في إقرارها، واتخاذها حيلة للنكوص عن مسؤوليتها والتزامها بالحفاظ على وحدة البلاد. والأمر الآخر المثير للاستغراب في بيان الحركة السياسي يتعلق بطبيعة النظام الذي سينشأ في حالة اختيار شعب جنوب السودان للوحدة فقد ذكر نصاً (ينبه المكتب السياسي إلى أنه في حالة اختيار شعب جنوب السودان للوحدة ستترب على ذلك القرار نتائج هامة. ففي البدء ينبغي التفكير في دستور جديد للسودان، لان مفعول الدستور الانتقالي القائم سينتهي بنهاية الفترة الانتقالية في 9 يوليو 2011. ثانياً الزعم بأن الوحدة ستقوم على المؤسسات والنظم والمبادئ التيث أرساها نظام الانقاذ زعم واهم ولا يمثل الحقيقة لأن النظام الذي ارسته الاتفاقية والقيم التي أعلنها لا وجود لها على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق بإعادة بناء الدولة أو فيما يتعلق باحترام وثيقة حقوق التي وطدت في الدستور، أو فيما يتعلق بمهنية الخدمة العامة، وأجهزة الأمن وإنفاذ القانون والنأي بها عن الانتماءات الحزبية وتغيير سياسات المركز). ووجه الغرابة هنا أن هذا الموقف يقوم على خلط متعمد بين نصوص الاتفاقية وتطبيقاتها، فالمعلوم أن اتفاقية السلام تنص على أنه في حالة التصويت لصالح الوحدة فإنه سيتم تبني النظام الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل، وبالتالي فإن الدستور الانتقالي القائم حالياً لم يات من فراغ، ولكنه يقوم أصلاً على نصوص اتفاقية السلام الشامل، وبالتالي من المنطقي أن تدعو الحركة الشعبية لتطويره استناداً على التجربة العملية للفترة الانتقالية، وليس الحديث عن دستور جديد كلية اللهم إلا إذا كان هناك تراض سياسي على إبرام اتفاقية أو تسوية على أسس جديدة تتجاوز اتفاقية السلام الشامل. فتلك هي نصوصها على أية حالة، وليس معقولاً أن تتهم الحركة شريكها بعدم تنفيذ مستحقات الاتفاقية، ثم تمنح نفسها الحق في اختيار ما تراه مناسبة منها للقبول به ورفض ما لا يعجبها. ومن حق الحركة الشعبية أن تنتقد ما تراه من تطبيق معيب لنصوص الاتفاقية وأن تحمل شريكها المسؤولية عن ذلك، ولكنها لا تملك أن تزعم أن النظام الذي أرسته اتفاقية السلام لا وجود له في أرض الواقع، وهو إدعاء يفتقر إلى المنطق وإلى الحجة، وإلا فكيف أصبحت الحركة شريكاً في السلطة المركزية وتسيطر على الجنوب بالكامل منذ أكثر من خمس سنوات، فإن كان هناك ثمة قصور أو عيوب في تطبيق النظام الانتقالي الذي أرسته اتفاقية السلام فهي شريكة في المسؤولية عنه، اللهم إلا إذا اعتبرت أنها كانت بمثابة الضيف على مائدة السلطة طوال سنوات الانتقال الماضية، تنتفع بمكاسبها وامتيازاتها دون استعداد لتحمل تبعاتها ومسؤولياتها. على أية حال ومهما يكن من أمر فإن اللحظة التاريخية التي يعيشها السودان الآن لا تحتمل سوى التعامل معها بكامل المسؤولية الوطنية، واسلوب المناورات السياسية القصيرة النظر والتلاوم وتبادل الاتهامات بين الشريكين الذين كان يظن أنهما أهديا إلى البلاد ليس وقف الحرب ولا السلام فحسب بل أهم مشروع سياسي لبناء دولة سودانية جديدة بعد أكثر من نصف قرن من التيه السياسي، يعودان ليتقزما في لحظة فارقة، وليس هناك ما يصعب الاتفاق حوله من أجل الحفاظ على وحدة البلاد لأن فيها مصلحة الجميع وليس طرفاً دون آخر، إذا توفرت للطرفين قيادة واعية تتسم بوضوح الرؤية وسعة الأفق والإرادة السياسية على جسر الهوة التي تعمقها الكثير من الأوهام السياسية. ولعل الحركة الشعبية، على خلاف ما يظن الكثيرون، هي الطرف الاكثر قدرة وأهمية في انتشال البلاد من مأزق التشرذم وسيناريو التمزيق الراهن متى ما أدركت أنها تتحمل المسؤولية الأكبر في ذلك بحكم أنها الطرف الذي يقرر حقاً مصير السودان، ولها أن تنعم النظر في تلك المفارقة للحركة السياسية الجنوبية فحركة الإنيانيا الأولى وذراعها السياسي حركة تحرير السودان التي كانت تنشد فصل الجنوب أهدت البلاد اتفاقية سلام حافظت به على وحدتها، بينما الآن نرى الحركة الشعبية لتحرير السودان التي نبذت مفهوم الانفصال لأول أمرها وتبنت رؤية سودان جديد موحد تكاد تنتهي لأن تقود البلاد إلى الانقسام والتشرذم. من المؤكد أن السودان يواجه تحدياً غير مسبوق، لا يمكن الخروج منه بسلام بغير حلول استثنائية يصنعها قادة استثنائيون من الطرفين. بقلم - خالد التيجاني النور:\