قرأت اليوم مقال الطاهر ساتى بعنوان ياعزيزى نحن قرود فى صحيفة الراكوبه, وأقول له صدقت ,علمياً نحن قرود وأقصد بنحن الجنس البشرى كافة, حيث أثبت علماء الوراثه أننا نشارك القرود أغلب الجينات الوراثية, فمثلاً فصيلة الشيمبانزى تشاركنا فى 98% من الجينات الوراثية, ولكن هذه المعلومة لم تكن هى ماتشغل بال الطاهر ساتى فى مقالة الذى تفوح منه رائحة سخرية ظريفه ولكن له مغذى إجتماعى عميق, وفيه دعوة واضحة للتفكير فى السلوك القردى " نسبة الى القرد" عند أفراد مجتمعنا السودانى, إذ لم تكن مقارنة سلوك السودانيون بسلوك القردة من إبتداع الطاهر ساتى, فقد ظهر هذا الوصف وتردد بكثرة فى سبعينات القرن الماضى وذلك لتفشى ظاهرة المحاكاة فى كل شئ, ولا أريد أن أطيل على القراء بحصر كل الظواهر التى تم تقليدها من قطاع كبير من المجتمع فهى معروفة لنا جميعاً, ولكن دعونا نبحث عن أسباب هذا السلوك القردى بموضوعيه وعلمية, أى أن نمارس قليلاً من النقد الذاتى وهذا واجب وطنى ومهم للتقدم والتطور بل هو الدينامو المحرك للتغيير. فبكل وضوح أو ربما فى رأى البعض "وقاحة وقلة أدب" نحن مجتمع يعانى من أخطاء تربوية فادحة, والتربية هى مسئولية الأسرة والمدرسة وأجهزة الاعلام والثقافة والمجتمع, وهذه بدورها العوامل التى تقوم بتشكيل وصقل شخصية الفرد فى المجتمع حيث أنها تشكل البيئة التى ينشأ فيها الفرد ويتأثر بها, ومن ناحية أخرى فإن هذه العوامل (الأسرة, المدرسة, الإعلام, المجتمع الخ) تتأثروتؤثر فى بعضها البعض سلباً أو إيجاباً, ونتاج هذا التفاعل ينعكس جلياً فى سلوك وثقافة فئات المجتمع المختلفة, غير أن فئات المجتمع أيضاً تتأثر وتتفاعل مع معامل آخرفى عملية التغيير والتطور وهو العامل الإقتصادى وتفاعل هذين العاملين (الاجتماعى والإقتصادى) يشكل النمط السياسى للدولة وينعكس ذلك فى مؤسسات الحكم, وعلاقة الدولة بالمجتمع وسياسات الحكومة, أو كما يسمي علماء الاقتصاد السياسى هذا التفاعل بين العامل الاجتماعى والعامل الاقتصادى بالاقتصاد السياسى للدولة, من هنا يتضح لنا أن تغيير مفاهيم وسلوك وثقافة المجتمع يتم وفق التراكم الكمى لمتغيرات العوامل الاخرى المؤثرة فيه ومتأثره به, وهنا يتضح لنا مغذى السلوك القردى الذى تناوله الطاهر ساتى كقضية وطنية حيث أن هذا السلوك صار من سمات سلوكنا الاجتماعى بل أضحى مؤسسة إجتماعية ( Social Institution of collective behaviour) وهذه كما ذكرت مسألة تربوية مرتبطة مع عوامل أخرى تتفاعل معها سلباً وإيجاباً. فالعامل التربوى الوحيد الذى بإمكانه دفع عجلة التغيير للإسراع هو الاعلام, لما له من مقدرة على مخاطبة كل المؤسسات التربوية الأخرى وحقن العقل الجماعى بأفكار ومفاهيم وثقافة جديدة جيدة ومفيدة, فالإعلام - وما أدراك ما الإعلام فى وطنى- يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالحرية والديموقراطية ليس عبثاً ولا تهريجاً وليس لغرض الكرنفلات السياسية الفاسقة, ولم تصبح السلطة الرابعة سلطة بحد السلاح ولكن بريشة الكاتب المفكر, وليس بمحض الصدفة أن تبوأ الإعلام مقعد حكم عدول مابين الدولة ومجتمعها حتى يكون الاداة التى تنقل للقائمين على أمر الحكم قبول أو رفض سياساتها من طرف المجتمع حتى تصحح الدولة مسارها بما يرضى مجتمعها عنها. أما فى سوداننا فإن العوامل التربوية المؤثرة فى شخصية الفرد وبالتالى المجتمع تعمل بصورة جماعية (collective behaviour) دون أن يكون للقناعات الشخصية ومنطق الفرد دور يذكر, فالأطفال يمتثلون لتوجيهات الوالدين, والوالدين يتصرفون بما تملى عليهم إرادة الأسرة, والأسرة حبيسة مفاهيم وسلوك المجتمع الخ.., وفى نهاية سلسلة التفاعلات هذه يكون الناتج هو أن أى مولود يكون فرد جديد يؤثر إحصائياً فى عدد أفراد المجتمع , أى أنه تغيير كم وليس تجويد نوع, لأن مؤسسات التربية تعمل وبكفاءه عالية على ألا يعرض أحداً "برا الذفّه" أو بالسودانى كدا " مايشنقل الريكه" , فهو وبكل هذه المعطيات لكن يكون سوى إفراز لهذه التربية السلطويّة ونمط السلوك المرتبط بها, وقبل أن يعتقد البعض بأننى بصدد تحريض الأبناء على عدم طاعة الوالدين أو التمرد على المدرسين أو الإنقلاب على التقاليد دعونا نجيب على هذا السؤال وهو: ماهى العيوب الناجمة عن هذه التربية السلطويّة؟ وأقول بادئ ذى بدء الأجابة فى مقال الطاهر ساتى فى مسألة السلوك القردى إياه, فعوضاً عن الضرب كعقوبة نحارب كل من تحدثه نفسه بشق عصا طاعة التقاليد المجحفه بالهجوم والنقد الهدام والرفض دون تفكيروقد تصل العقوبة الى حد نبذ الفرد من الأسرة بل والمجتمع, وسلاح مجتمعنا قاتل فهو التهم الظالمة وترويج الاشاعات الجائرة, بل ونفسياً وذهنياً نحن مهيأون بحكم هذه التربية السلطويّة لتصديق الشائعات والتهم بل وترويجها لأننا لم نتعلم إستخدام عقلنا الفردى فى التفكير والتحليل والتمحيص وإستنتاج النتائج, بل نفكر من خلال العقل الجماعى للمجتمع وما إستخدام جمل مثل " الناس قالوا, والناس يقولوا علينا شنو؟" إلا إثبات بالدليل وبالرهان على ذلك. من هنا بإمكاننا إعتبار سلوك الفرد السودانى هو سلوك قطيعى (نسبة للقطيع) وهو سلوك أدى الى تجمد المجتمع السودانى وليس الى تخلفه, فالتخلف شئ والتجمد شئ آخر, فالتخلف حالة سكون فيها حركة والتجمد سكون لاحركة فيه, وذلك لأننا مجتمع تتزايد أعداد أفراده ولاتتغيير مؤسساته وإن كان بها خلل, ونتائج كل هذا الخلل تتجلى فى ضعف الخلق والإبداع فى كل المجالات, وكلما ضاقت بنا السبل الى جديد يضيف نكهه ومذاقاً الى حياتنا الخاوية من الإبداعات المبهجه طفقنا ننبش فى الماضى المهترئ لنعيد القديم البالى الى حيّز الوجود ونفرح به وكأنه شئ جديد, وإذا ما إرتفعت أصوات النقد منددة به دافعنا عنه بجسارة على إنه إرث الأجداد, وهذا مرده الى الخوف من التغيير والتجديد ولأننا نخاف من الوقوع فى الخطأ, فقد تربينا على كره الخطأ وعدم الوقوع فيه لأننا نخاف العقاب عليه, ولانحتمل النقد والتوبيخ ولو كان بناءً , ولانحترم الرأى الآخر لأننا فى دواخلنا نرفض السلطويّة والوصاية, ولأننا فرد فى قطيع لانملك حق طرح البدائل والحلول لما هو سائد ومرفوض. كل هذا ودون الخوض فى كل النتائج المترتبة على السلطويّة والوصاية وسلوك القطيع يتجلى لنا فيما إلنا اليه من حال, فعلى سبيل المثال دعونا ننظر الى تلك التنظيمات المدعوة زوراً وبهتاناً أحزاب سياسية, أليست هذه الاحزاب فى هياكلها وتنظيمها بؤرة السلطويّة والوصاية والديكتاتورية وتأسيس حكم الفرد؟ ألم تنتظم عضويتها بمفهوم سلوك القطيع والذى يبرر بأنه إرث الاباء والأجداد؟ وأخال الاباء والأجداد يتململون فى قبورهم حسرة ولسان حالهم يقول نحن كنا ما فاكين الخط يا أحفادنا الجامعيين, فهذه التكوينات السياسية الشائهه ومن وجهة نظر علم الإقتصاد السياسى ماهى إلا إإتلافات إنتهازية تسعى لإقتسام ثروات المجتمع الجاهزة وليس خدمة المجتمع بإنتاج ثروات جديدة ( راجع Olson 1969: The Theory of Interest groups and Distributional coalitions) لذلك تعانى هذه الأحزاب من الجمود والركود والعجز التام عن تقديم مايفيد المجتمع والوطن لأن ذلك ليس من أهدافها, ومن إنشق عنها لينظم أحزاباً جديدة أعاد نفس عقيدة السلطويّة وعقدة سلوك القطيع فيها, فتخيل لهم أن أسماء أحزابهم ترن بالحداثه وتكوينها يئن من القدم, وتبقى أقلية مخلصة ناضلت من أجل تحديث هذه الأحزاب حتى تعبت وكفرت بها. وآخر القول لمن يتساءل من أو ما هو البديل لحكم الإنقاذ؟ أن البديل موجود لو بدأنا بإستخدام عقولنا للتفكير بدلاً عن ترديد سؤال تعجيزى يطرحه العاجزون عن التفكير, ومتخلفى الذهن, ومن أغتيل فيهم الطموح وروح المغامرة, علماً بأن علماء السلوك الانسانى أفادوا بأن هذه الفئة من البشير لم تسهم فى تطوير حضارة الانسان منذ ظهور ال " Homo Sapience" وهذا يعنى إن من يتبع مقولة " الخواف ربى عياله" لن يقدم للسودان شيئاً أو بالسودانى كدا كما قال شاعر البطانة الحردلو: ناس إن رموا السهم مابطيش وناس ساكت كتره وخسارة عيش وكل سنة وانتم طيبين [email protected]