كتب تقي الدين المقريزي في مستهل كتابه: «إغاثة الأمة بكشف الغمة» بعد أن تبسمل وصلى على النبي الكريم، يقول :«...الحمد لله مصرف الأمور بحكمته، ومجريها كيف يشاء بقدرته، الهم على قوم فأوقفهم على ما خفي من بديع صنعته، ووفقهم لاتباع ما درس من شريعته، وآتاهم بيانا وحكما، وألهمهم معارف وعلما، وأيدهم في أقوالهم، وسددهم في افعالهم، حتى بينوا للناس ما نزل من المحن، وعرفهم كيف الخلاص مما حل بهم من جليل الفتن، واضل آخرين فأكثروا في الارض الفساد، وأملي لهم حتي أهلكوا بطغيانهم العباد والبلاد، واستدرجهم من حيث لا يشعرون، فهم في ضلالهم يعمهون، وبباطلهم يفرحون، ولعباد الله يذلون، وعن عبادة ربهم يستكبرون.» جزاك الله خيرا، فكأنك تنطق بحال أهل السودان كاظمي الغيظ تحت ثقل القهر، كاليتامى في مآدب اللئام. والسودانيون هذه الايام سكارى وما هم بسكارى. تجدهم في المجالس كأنهم خشب مسندة، قد تتحرك عيونهم، ولكن تعطلت لغة الكلام الشافي والمفيد رغم أن سراتهم يملأون شاشات التلفاز ويسودون الصحف ويتزاحمون في قاعات المؤتمرات. فقد فات وقت الكلام، وما حديثهم الحالي الا لتبرئة الذمة وللمحاججة.. «ونصحت قومي بمنعرج اللواء». وهذا كلام خير منه الصمت«...فليقل خيرا أو يصمت.» وحين يوضع الكلام في موضع الفعل فهو تماما كوضع الندي في موضع السيف. فهل يلازمنا سوء التقدير كالظل دامغا كل سلوكنا وحساباتنا؟اذ لم أر أو أسمع بأمة أو شعب في مثل محنتنا هذه، ويتعامل بمثل هذه اللا مبالاة والقدرية والاستسلام. وما انتفاع أخي الدنيا بناظره اذا استوت عنده الأنوار والظلم وهذه أقصى درجات البؤس واليأس، وهي قد ملأت أقطار نفوس قادتنا وجماهيرنا: وكما تكونوا يول عليكم. فنحن في وطن تفصله ايام قليلة عن التقسيم والتشرذم. واصبح استقلال البلاد علي كف عفريت، ولا ادري ماذا سيكون رد اسماعيل الازهري لو عاد للحياة، وهو القائل: اتينا لكم باستقلال مثل صحن الصيني سليم ، لا شق لا طق! ليري ماذا فعل ابناؤه بصحنه. فقد ظللنا منذ عام الاستقلال 1956م نعمل بعلم أو جهل، بوعي أو لا واعي على التفريط في هذا الاستقلال. ففتحنا الباب للانقلابات العسكرية وأمعنّا في الانشقاقات الحزبية حتى اصبحت مثل الرياضة الشعبية الحزبية. ولم تكتف النخبة بادمان الفشل بل استكانت للهزل وعدم الجدية والانانية المفرطة. وكل الذي يحدث الآن، ليس سببه تراث تجارة الرقيق ولا الاستعلاء العرقي ولا اختلاف الدين، ولا الزرقة والعروبة، بل فقط: العجز التنموي أي انتاج الثروة وعدالة توزيعها. فقد عجزنا عن تحويل الوطن الذي نتغني نفاقا وكذبا بحبه، الى بلد منتج وعادل ومساواتي وخال من الفساد. ومن هنا جاء الظلم والتهميش، وقابله السخط والعصيان والحروب. وساهم المهمشون في تعميق الازمة بسبب خطأ تحليل أسبابها. فهم لم يهمشوا لأنهم زغاوة أو فور أو بجا أو نوير أو دينكا، ولكن حدث التهميش بسبب العجز عن بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة. ومع غياب حقوق المواطنة الثابتة تبرز فروق العقيدة والقبيلة ويكون الصراع والنزاع المسلح. ولم يكن تفاني النخبة في بناء الوطن بل في بناء نفسها ، اهتداءً بالشعار التراثي الذي اورثهم اياه آباء صدق: كوّن نفسك! والذي تحول مع التأصيل الي: ولا تنس نصيبك من الدنيا. واستمسكت النخبة بالنصيحة جيدا، فتبارى افرادها في تشييد مدن وغابات الاسمنت الفخيمة، وتعبيرا عن الامتنان حملت اسماء مصادر النعمة: الرياض، الطائف ..الخ. وللطوارئ شراء الشقق في القاهرة ويا حبذا الشروق و6 أكتوبر، وفي السبعينيات كانت لندن هي المبتغى، واخيرا في العصر العباسي الثالث اصبحت دبي وماليزيا. وفي هذه الاثناء ذهبت اموال محاربة العطش وغرب السافنا ومصنع نسيج قدو، وطريق الانقاذ الغربي، والنفرة الزراعية، ومشروع العلاج في الداخل، والمدينة الرياضية مجرد عينات عشوائية، الى أولياء أمر هذه الأمة. ويمكن بمتابعة دقيقة متابعة، معرفة أين استقرت اموال التنمية المرجوة؟ «2» قد يكون في الجزء السابق بعض التاريخ، ولكن الآن: لماذا هذا الصمت أو الحيرة؟ ليس هذا من شيم وطبائع الشعب، أن يرى وطنه العزيز لا ترعاه أية عناية بل تبحث كل شؤونه خارج ترابه. فماذا دهى شعب 24 واكتوبر وابريل؟لقد اعاد المشروع الحضارى صياغته كما بشر. وذلك، من خلال الترويع والتجويع والتخويف والتسطيح والترغيب والالهاء. لم يكن هدف اصحاب المشروع الحضاري خلق انسان سوداني جديد مستقبلي، بل هدفوا الى تدجين وحيونة الانسان السوداني لانجاز التمكين، لأن الانسان في مشروعهم وسيلة وأداة وليس غاية. وصاحب أي مشروع يلجأ لبيوت الأشباح لاجبار انسان على تغيير موقفه السياسي والفكري لا يمتلك أية صلة بما هو حضاري أو اسلامي. وقسم الاسلامويون السودان الى فسطاطين: الأول أهل الولاء وهم اصحاب الامتيازات من عمارات وسيارات وأرصدة وتعددية نسائية وليست سياسية، ونفوذ، ووساطات، ومحسوبية، باختصار استباحة مطلقة لمقدرات البلاد. وفي الفسطاط الآخر نجد الجائعين، الخائفين، المفزوعين، العاطلين أو المعطلين المحرومين من العمل في المؤسسات المقدسة المعروفة ذات المرتبات الخرافية. ومن آليات الحيونة تصعيب سبل كسب العيش، وبالتالي يلهث المواطن طوال النهار ويأتي غير قادر على مطالعة جريدة أو مشاهدة تلفزيون أو سماع اذاعة. ولا توجد قرب سكنه دار سينما تعرض افلاما رفيعة، ولا يعرف قاليري لعرض فنون تشكيلية ولا مسرح ولا اوبرا ولا مهرجانات ولا مكتبات عامة. والحدائق العامة القليلة والمحدودة تحولت الى مصائد لمتعة افراد أمن المجتمع. هذه حياة تنزل بالانسان السوداني الى قرب الحيوان غير الناطق. وهناك اعداد قليلة من غير أهل الولاء ولكن يتطلعون الى نصيب من الكيكة الاستهلاكية، وبالتالي لا يهتمون بالامور العامة. هنا لا بد من جملة اعتراضية من لزوم ما لا يلزم، اذ يتهمني البعض، في خبث بائن، بأنني أتعمد الاساءة للشعب السوداني، فأقول لهم: ان كان يجمعنا حب لغرته فليت أنّا بقدر الحب نقتسم وأكثر ما اغضبني تعليق الاستاذ خالد المبارك «سابقا» لاصراره على ضمي كصوت ضمن المعارضة التي تغطي فشلها باعتبار كل الشعب السوداني «غلط». فقد كنت اظن أن عقد عمله مع المؤتمر الوطني يشترط عليه الدفاع عن النظام فقط ولا يتضمن سب الآخرين والاساءة اليهم. واود أن أصحح ما يلي: لست مجرد معارض سياسي للنظام، ولكنني مقاوم فكري لمشروع كامل يهدف لاذلال الشعب السوداني الكريم. لذلك، حاشا الله أن اتعمد الاقلال من شأنه، ولكن دون تملق رخيص. فانت الآن تدافع عن الجلاد والضحية في وقت واحد. فقد قال محمود درويش على لسان الشعب الفلسطيني: اعفونا من هذا الحب القاسي! واعيد نفس القول، من يحب الشعب السوداني عليه أن يكون صادقا في توعيته، تعليمه والتضحية من أجله. فهناك رومانسية مضللة تتغزل في خصال الشعب السوداني العظيم وفي نفس الوقت تتفرج فقط على أزماته. وهذا منتهى النفاق والغش والتدليس. وتقودنا هذه الملاحظات الى صلب الموضوع وهو النداء أو الاستغاثة لنجدة هذا الشعب اليتيم. «3» كان السؤال المحرج بمن نبدأ بتوجيه النداء؟جاء صوت شعبي مختلف عن سفسطة المثقفين: لماذا لا تبدأ بسادتنا الاولياء البيكم توسلنا؟ فهم تماسيح الدميرة وهم دائما رجال الحوبة. وظل في تاريخ السودان الحديث رمزان كادا يتحولان الى ظاهرة طبيعية وليسا مجرد واقعتين من الظواهر الاجتماعية-السياسية والثقافية. وكأننا حين نقول الختمية والانصار نقصد النيل الابيض والنيل الازرق. ولان التاريخ لدينا راكد، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية مثل الثابتة، والبدائل الحديثة ضعيفة الحضور، امتد زمن الطائفية وترسخت جذورها في المجتمع. كما ظلت محاولات اضعاف الطائفية فوقية وتستعين بسلطة الدولة، لذلك قاومت الطائفية كل اشكال الاضعاف وانتصرت عليها. ومازال الولاء التاريخي والتقليدي منعقدا لكم، وبالتالي تظل مسؤولية السيدين: محمد عثمان الميرغني والصادق المهدى هي الأعظم. وتكون اغاثة هذا الشعب اولويتهم القصوى، لأن هذا الشعب ظل منذ انتخابات عام1953 يأتي بهم الى السلطة. ففي انتخابات ذلك العام نال الحزب الوطني الاتحادي «برعاية السيد علي الميرغني» «53» دائرة من مجموع «97» دائرة وشكل الحكومة الاولى التي جاءت بالاستقلال. ونال حينها حزب الامة «22» دائرة. وفي آخر انتخابات ديمقراطية شاركت فيها الطائفتان، نال حزب الأمة القومي 1.508.334 صوتا أو 101 نائب برلماني، ونال الحزب الاتحادي الديمقراطي1.163.961 صوتا أو63 نائبا. وهذا يساوي 68% من مجموع المقترعين. وهذه ثقة واضحة والتفاف مستمر الا يستحق هذا الشعب الذي يحملكم الى السلطة كل مرة الى لقاء السيدين مثلما حدث في مطلع ديسمبر1955؟ وجاء في بيان اللقاء: «الآن وقد شاء الله فتحقق الأمل العظيم الذي ظلت البلاد تنشده منذ أمد، فالتقينا ابتغاء مرضاة الله والوطن، فيسرنا أن نعلن عزمنا على الوقوف متكاتفين في كل ما يعود على الأمة السودانية الكريمة بالخير والسعادة والحرية والسيادة الكاملة». وبالتأكيد الظروف اختلفت ويلتقي السيدان، ولكن لقاء هذه المرة يأتي في ظروف دقيقة وحرجة، فالمطلوب أن يحشد السيدان انصارهما في ميدان عام بقصد طمأنة الشعب ثم تأكيد وقوفهما مع الوحدة بغض النظر عن الزمن. وأن يتكرر هذا الحشد عدة مرات حتى 8 يناير. هذا وقد قرر مجلس الكنائس أن يقيم الصلوات كل يوم حتى 8 يناير. هذا النداء يمتد الي المحامين والاطباء والعمال والمزارعين والمعلمين والنساء والشباب وكل بقية الاحزاب بلا استثناء. فهل يستجيب السيدان لهذا النداء، ردا لحب تلك الجماهير التي تحلف بهم وتتبرك بالتراب الذي يدوسونه؟ الا تستحق هذه الجماهير الوفية كريم عنايتكم الآن يوم الكريهة. ومثل هذا الحشد هو في جوهره المؤتمر الدستوري الذي ظلت القوى الوطنية تدعو إليه منذ زمن طويل.