مثل عصفورة مبتلة تكومت على المقعد الخشبي وحيدة في تلك الحديقة العامة، نزلت دموعها حارة بللت خدها، ادارت رقمه للمرة المائة ربما، الآن هاتفها يخلو من كل المكالمات الصادرة إلا رقمه. لكنه لا يجيبها أبداً. مازالت الافكار تناوشها والهاتف بين اصابعها الخمسة تديره يميناً ويساراً، تقلبه، ترميه لترفعه ثانية. تدقق النظر فيه. تتعالى الدموع من عينيها قطرات تبلل الهاتف. وعيناها السارحتان معلقتان بالهاتف الجوال. ليته يرن. هاتفها الجوال في وضعه «الهزاز». ضربات قلبها المتتالية، حزنها العميق المتأصل في دواخلها شفتاها المضطربتان، يداها المعروقتان، بالها المشغول دوماً حواسها المشتتة. ثم سرحت ببصرها بعيداً. وحينها حاصرتها الذكريات وكادت الاحزان ترميها انه مغلق هذه المرة. بعثت إليه بمكالمة صوتية - أمجد ارجوك - كلمني للمرة الاخيرة لم اعتد على أن يرن هاتفك وأنت لا تجيب أو أن يكون مغلقاً!! أسفه، أرجوك، اعرف قسوة ان اطلب منك ان تنهي ما بيننا لكنني... لكنني.. ماذا اقول؟ لقد خفت عليَّ وعليك!! من هذا الهدير الجامح، عاطفتينا. وبعدها ايضاً لم احتمل فكرة ان لا اسمع صوتك. احست ببعض الراحة وهي ترسل إليه بالمكالمة الصوتية، ظلت حبيسة افكارها في ذلك اليوم، وحملتها الذكريات بعيداً إلى حيث لقاءاتهما الحميمة، دموعها عاودت الهطول مثل مطر غزير على ارض يباب. شفتاها زاد جفافهما، احست بارتفاع درجة حرارة جسدها، يداها زاد تعرقها كل جزء منها الآن يضطرب ويمور، اسنانها تصطك ورأسها تحسه يدور، قالت محدثة نفسها:- ياللهول كل ركن لي فيه معه ذكرى، لقد تجول في حناياي وأنا لم انتبه تسلله الخفي، وسيطرته التامة على كل جوانحي، سكنني وانا غافلة، كيف اخرجه الآن. قالتها بصوت عالٍ ثم وضعت يدها على فمها خوف أن يكون قد سمعها أحد. بل خوف ان يعلو صوتها مرة أخرى بلا شعور منها. أصلحت من وضع جلستها وهي تنظر إلى الساعة في معصمها. قالت لنفسها:- ساعة بالتمام وأنا جالسة في هذه الحديقة. هنا حيث شملتني انفاسه لاول مرة، هنا حيث جلسنا متقاربين لاول مرة، هنا حيث امتدت يده تلامست يدي. هنا حيث شعرت بحمى جسده، هنا حيث احببته!! ولكن هل أحبني؟ فجأة قال صبي في العاشرة من عمره:- انتي ناديتني يا بت؟ أنا؟؟ ايوة انتي!! أبداً ما ناديتك. قايلك دايرة حاجة باردة!! لا أبداً شكراً، طيب كنتي بتتكلمي مع منو؟ - انت مالك يا ولد؟ يلا امشي من هنا، - بتتكلمي براكي؟ جنيتي ولا شنو؟ ثم هرول الصبي بائع المياه الباردة والغازية، هرول وهو يقول:- يا ربي البت دي الليلة مالا؟ هل يا ترى يذكرني الآن؟ ماذا تراه يفعل الآن؟ هل استمع إلى رسالتي الصوتية؟ هل يذكرني كلما استلقى على فراشه؟ ماذا لو نلتقي؟ لو اقول له كلاماً كثيراً؟ لو انمق الكلمات من اجله؟ لو ولو ولو؟ أنا غبية جعلته يغضب مني بسبب لساني الفالت، امي تقول ذلك:- تقول ان لساني طويل ويحتاج إلى قص، وكذلك تقول مودة صديقتي - أمجد لا يستحق مني كل تلك العبارات التي القيتها على مسامعه والتي ارسلتها له. ثم قامت تلملم اوراقها وتنظر نحو هاتفها الجوال. والهاتف صامت لا يهتز أبداً. قاعدة من متين هنا؟ التفتت أمجد؟ مستحيل انت اللي من متين هنا؟ لا إنت عرفت من وين أنا هنا. أبعد أمجد هاتفها الجوال برفق من يدها - ووضعه في حقيبتها ثم أمسك يدها وجرها نحوه:- اجلسي منذ متى وانتِ هنا؟ - منذ فترة!! لكن كيف عرفت انني هنا؟ أشار إلى قلبه هذا... هذا هو من دلني إليك... هذا من آخبرني بمكان وجودك انه دليلي. وكلماتي الغبية التي تلوتها عليك وأنا أحاول ابعادك عني؟ هفواتي، زلة لساني؟ حماقاتي جميعها هل نسيتها؟ نسيتها جميعاً!! والرسائل السخيفة، مسحتها جميعاً وأنا؟ أحبك ولكن؟ دنا منها، فقالت الناس والشارع المارة!! قال سيفهمون!! - يفهمون ماذا؟ - اني أحبك ، لحظتها قالت بصوت مسموع:- وأنا كمان، هنا قهقهة الصبي بائع المياه الغازية والماء البارد ثم صاح:- وبرضو تقولي ليَّ ما راجية زول يا مستهبلة. وبرضو تقولي ليَّ بتكلم براي؟ ثم بسرعة دنا منهما، وضع بالقرب منهما قارورتين من المشروبات الغازية، ثم اسرع الخطى والجسد النحيل يتأرجح من حمل المياه. صاح فيه أمجد:- تعال يا ولد شيل قروش البارد!! رد الصبي:- خليها يا فردة دي هدية رجعة الفِرد!! تلاشى جسد الصبي الصغير، تقاربت أرواحهما التقت الأيادي في شوق، سرت قشعريرة انساب بوح صريح.