«بين اليسار واليمين من الجنوب والشمال ينهض حائطٌ بارد الأعصاب للخلد وإبرة الماء لا تبحثوا أيها الزنوج عن ثقبه لتجدوا القناع اللامتناهي فتشوا عن شمس المركز الكبرى المتحوِّلة شجرة أناناس مدمدمة تنزلق الشمس في الغابات ولم تصادف حلماً أبداً الشمس الموشومة التي تنزل عبر النهر وتخور تتبعها التماسيح». عيناها كانتا جوعاً وبحثاً عن ما يكفي الرغبة، وكانت تمنعني (لوركا)، مخزون الذرة، جوال كان يرقد في زاوية الحجرة، إنها تعرف أن الطعام موجود وأنها جائعة، لذلك هي تكرهني، وأنا أحب لوركا وهي تمنعني إياه، حين غفلتي؛ تتسلل، وتحاول أن تثقب الجوال، أنا أمنعها، وهي تمنعني لوركا. معذرة لوركا، سأعود إليك، امنحني برهة، فالعنزة تأكل من مخزون العام، نحن نخزن الذرة خوفاً من الجوع في الأيام المقبلة، كلنا نخزن، إنها الطريقة المثلى لتفادي الجوع، نحن نخزن جوالاً واحداً، ولكنهم يخزنون آلافاً من الجوالات، لا، بل مئات الآلاف، لا، ليست لمنع الجوع، بل لمزيد من تصيُّد الأزمات، نحن نزرع الذرة، الأرض بكر، لكننا نجوع، لأننا نفأجأ حين غفلة منا بانعدامه، لا بد من طردها، وإلا ضاع مخزون العام، تَكْ، إِشْ، تَكْ. «لكن الرجل المتلفع بالبياض يجهل سر السنبلة يجهل تأوه المرأة أثناء العمل يجهل أن باستطاعة المسيح بعد، أن يروي العطاش يجهل أن قطعة الفضة تحرق القبلة العجيبة». لا زالت تنظر إليّ يا لوركا، بدأت أخاف منها، يقال إن العنزة الجائعة قد تتحول إلى شيطان يتربص ليلاً بمن يمنعها الطعام. أنا لا أمنعها، أنا أعرف أنها جائعة، لكنه مخزون العام، ثم إني قد لا أصدق مثل هذه الأقوال، لكن ماذا نفعل مع الأحاديث التي تذهب نحو الخرافة؟ هل سمعت يوماً عن عودة الموتى؟ يقولون ذلك، بل ويطلقون عليه اسماً (البَعَّاتي). كان زميلي في ورشة النجارة، حين كنت أعمل صبيَّ نجَّار في إجازات المدارس، اسمه (كوكو الباك)، الباك لأنه يحلم بالنجومية في كرة القدم، كل أحلامه أن يكون لاعباً تهتف له الجماهير، لكن لظروفه كان دون ذلك، فصاروا ينادونه بكوكو الباك، سخرية منه وجلباً للضحك من خلال أحاديثه عن نفسه كلاعب، وحين عجز عن أن يصبح لاعباً تهتف له الجماهير؛ أصبح يحلم بالغناء، تعلَّم عزف آلة العود، أصبح عازفاً ماهراً، ولكنه كان مصاباً بعجز اللغة، وعدم التواصل، فصار يغني بلهجة قبيلته، وعندما قرب من النجاح؛ اختطفه الموت في ريعان شبابه، وجدوه ميتاً دونما مرض، وبعد أسبوع سمعت العم (حارن) يقول: «كان الوقت ليلاً، احتجت إلى ماء؛ فحملت الصفيحة وذهبت إلى الدونكي، وعندما وصلت هناك، سمعت غناءً خافتاً، فاستفسرت منادياً: من هناك؟ فسمعت صوتاً مخنوقاً: أنا كوكو، كوكو الباك. فهربت مسرعاً. يقولون إنه عاد إلى أهله، وأخذ كل حاجياته، ومن ضمنها آلة العود والعياذ بالله». لوركا، الموتى عندنا يعودون ويغنون ويتحركون مع الأحياء، فما الذي يمنع العنزة أن تتحول ليلاً إلى شيطان بسبب الجوع؟ على كل، سأطردها، لا بد من طردها، إنه مخزون العام يا لوركا، إِشْ، تَكْ، إِشْ، تَكْ، ها هي قد ذهبت، وعدت إليك. «لا حب تحت التماثيل الحب في الأجساد التي يمزقها العطش في الحفر التي تكافح فيها زحافات الجوع في البحر الحزين الذي يهدهد النوارس في القبلة الموجعةالسوداء تحت المخدة». ها هي قد عادت، يبدو أن الإحساس بالجوع يولد الإصرار، نعم، لطالما قرأت أن الوعي به يفجِّر الثورات، عادت لتمنعني منك يا لوركا، أنا لا زلت أخاف من نظرتها، نفس نظرة تلك الطفلة، إلا أن الفرق في الموقف، كانت الطفلة تسخر مني، وها هي العنزة تسخر مني بإصرارها. الطفلة كانت تقف أمام باب منزلها عندما كنت ماراً بالطريق، ووجدت جمعاً من الناس يحملون سقف «قطيَّة» ليضعوه على البناء الأرضي «للقطية»، أنا لم أحاول أن أساعدهم، هناك لحظات لا يقبل فيها الإنسان مساعدة الآخرين، كنت وقتها هائماً، وحين التفت؛ لسعتني نظرة تلك الطفلة المشبعة بالسخرية الممزوجة باللوم، وها هي العنزة أيضاً تسخر مني، أنا لا أقبل أن يسخر مني إنسان، فكيف أحتمل أن تسخر مني عنزة؟ كيف أقبل هذا يا لوركا؟ قل، ثم إنها تمنعني منك، أنت تعرف هذا جيداً، لا يمكن التعاطف معها، نعم هي جائعة، ولكنه مخزون العام، سأطردها، لا بد من طردها، وهذه المرة بعيداً، وسأقفل الباب تماماً، وسأبقى لك وحدك، تَكْ، إشْ، تَكْ، تَكْ، إشْ، تَكْ، إشْ، هأنذا أغلقت الباب يا لوركا. «احتضار، احتضار حلم، خميرة وحلم هكذا العالم صاحٍ نزاع واحتضار تحت ساعة المدائن الموتى يتحللون تصير الحرب باكية برفقة جرذ رمادي يقدم الأغنياء لعشيقاتهم صغاراً يحتضرون متألقين والحياة ليست شريفة ولا طيبة ولا مقدسة». كيف هذا يا لوركا؟ وقد سمعت بذلك الرأي (إذا كانت الحياة لا تساوي شيئاً؛ فإن لا شيء يساوي الحياة)،آه فهمت، أنت تتحدث عن وجود الحياة، ولكنك لا تتحدث عن صفاتها، صحيح، ليس هناك ثبات في صفات الحياة، إذا كان الموت متعدد الأشكال، بل متعدد الوظائف. «ماذا يقولون؟ قربهم جسد له الشكل البلابل الصريح وهو يمتلئ أمام أعيننا بثقوب دونما قعر من يجعد الكفن؟ ما يقوله كاذب لا أحد هنا يغني أو يبكي في الزاوية أو يهمز أو يخيف الأفعى». كأنك تتحدث عنه، إني أحس ذلك، إنه (بوبي ساندز)، لا زال معنا، يمكنك أن تراه، يمكنك أن تتحدث إليه، لا بد أن تقول عنه كما قلت: «سيصرخ حتى لو سحقوا دماغه على الجدار سيصرخ تجاه القباب سيصرخ مجنوناً من الثلج سيصرخ مجنوناً من النار». إنه لا زال يصرخ، لا بد أنك سمعته، إنه معي، ها هو ذا، يمكنك أن تقابله. الحجرة أضيئت، لوركا يصافح بوبي ساندز الذي كان ممتلئاً صحة وعافية، احتوت أحضانه لوركا، ذاب كل منهما في الآخر، وأنا أستمع إليهما يتحدثان: لوركا: كيف جئت أنت؟ بوبي ساندز: جئت لأننا نريد أن تكتمل مشيئة الأرض التي تمنح ثمارها للجميع. لوركا: ألم يأت ذلك الطفل بعد؟ بوبي ساندز: أي طفل؟ لوركا: الذي سيعلن مجيء مملكة السنبلة. فتح الباب بعنف، إنها هي، العنزة، عيونها تخيفني، تمنعني منك لوركا، وبوبي ساندز معي، ها هي تأكل من مخزون العام، وأنا لا أستطيع طردها، وأنا أسمع بوبي ساندز يقول بلسانك «إنه عادل أن لا يفتش المرء عن لذاته في غابة دم الغد»، إنها تأكل من مخزون العام، تمنعني منك لوركا، وبوبي ساندز كان معي، وهو يحلم بمجيء مملكة السنبلة، والعنزة تأكل من مخزون العام، وحين هممت بطردها متحركاً نحوها، ونحو جوال الذرة القابع في زاوية الحجرة؛ تفادتني وحملت معها في فمها وهي خارجة من الحجرة كتاب ديوان لوركا، الذي كان مكفأ على السرير، كانت العنزة تركض وهي تمضغ بنهم غريب أوراق الكتاب، وأنا أركض وراءها، وأكاد أسمع حروف الكتاب تصرخ، وتصرخ. { المقاطع الشعرية للشاعر الإسباني فردريكو غارسيا لوركا ترجمة كميل داغر. { بوبي ساندز، مناضل إيرلندي، مات لإضرابه عن الطعام في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم.