مع الاحتفاظ لرافعي شعاري الشعب يريد إسقاط النظام الذي نجح في تونس ومصر ومايزال مرفوعاً في بلاد أخرى، وشعار الشعب يريد أسقاط المعارضة الذي إجترحه بعض مناصري النظام الحاكم عندنا هنا في السودان، الشعب يريد إسقاط المعارضة، بحقهم فيما يرفعون، نتساءل ببراءة وطنية خالصة عن مدى إمكانية إفتراع شعار ثالث مؤداه، الشعب لا يريد إسقاط أحد، وإنما يريد أن يأتلف الجميع ويلتقوا في رحاب الوطن الكبير، ويجمعوا على كلمة سواء تستوعب الكل بلا إسقاط لأحد أو إقصاء لآخر، وذلك بأن يتوافقوا على برنامج حد أدنى يلملم شتات البلاد أولاً ويعصمها من الانزلاق إلى مآلات مؤلمة، إنزلقت اليها بعض دول الجوار، ويستجيب ثانياً للمطلوبات الأساسية التي تحتاجها عملية بناء أمة هي بكل المقاييس لاتزال تحت التكوين وبناء دولة تحتاج الكثير حتى تقف على رجليها كتفاً بكتف مع من سبقنها في مجالات التطور والبناء، وهذه مهمة شاقة حتى ولو توافر عليها الجميع بروح النفير دعك من جماعة واحدة مهما إدعت من قدرات وملكات، فالحاجة الحقيقية والماسة التي تحتاجها البلاد بأعجل ما تيسر ليست هي بأية حال الصراعات والاستقطابات والمكايدات والمماحكات والتكتيكات والتلاعب بالشعارات، بل الحاجة إلى أن نوجد أولاً هذا الوطن المتماسك بوحدته الوطنية والقوى ببنيته الاساسية، لا أن ينخرط السياسيون وينغمسوا في صراع وملاسنات حول لا شيء، فما يسود الساحة السياسية ويسوّد المشهد الوطني الآن من هرج ومرج واختلافات وإنشقاقات حتى بين أهل التوجه الواحد والتنظيم الواحد والحزب الواحد، في الوقت الذي تفتقر فيه البلاد لأبسط الخدمات الضرورية والتي إن وجدت لن يجد الكثيرون المال الذي يوفرها لهم، فذلك لا يبني وطناً بقدرما يهدم حتى القليل الموجود... وبرنامج الحد الأدنى المطلوب صياغته والإلتفاف حوله ليس شيئاً عصياً إذا ما خلصت النيات وتوفرت العزائم وخلت النفوس من الأطماع الحزبية والتطلعات الشخصية، وليس هو مما يمكن أن يثير حفيظة أحد أو يتسبب في تحفظ جهة، وإنما بالعكس تماماً فهو برنامج يشكل البؤرة التي يلتقي حولها الجميع، فمن ذا الذي يعارض أو يتحفظ على برنامج تقوم سداته على مشاركة الجميع في حكم وإدارة شؤون بلادهم، ويجعل أي مواطن يشعر بأن نظام الحكم القائم يمثله وله فيه نصيب، ولحمته التنمية والنماء والتطور وحل المشاكل التي أضحت مزمنة منذ عهد الاستعمار، وإجتثاثها من جذورها، وليس أدلّ على الخيبة التي نعيشها، من هذه المشاكل المتكررة بذات اسمها مع الزيادة المضطردة في حجمها عاماً تلو عام منذ عام «56» والى الآن، وكأنما قدر هذه البلاد أن تظل تراوح مكانها وتدور في حلقة مفرغة، ومن بعد الفراغ من هذه المهمة الوطنية الجليلة والعظيمة فليطبق من شاء البرنامج الذي يشاءه محمولاً بإرادة الجماهير وليس مجنزرات الدبابات، فهل هذا عصي أو عسير أم أنه برنامج طوباوي خيالي مثالي لا حظّ له إلا في دولة من الملائكة؟، هذا ما يفترض أن تجيب عليه جلسات الحوار التي ما فتئت تنعقد وتنفض منذ مدة، مرة مع حزب المؤتمر الوطني ومرة مع مستشارية الأمن، ومرة بشكل ثنائي ومرة بشكل جماعي، ولا ندري على ماذا تتفاوض مختلف ألوان الطيف السياسي المنخرطة في هذا الحوار إن لم يكن على مثل هذا البرنامج؟..