بدون ترتيب مسبق وضعتنى الصدفة البحتة في مواجهة عابرة مع اللواء طيار «م» عبد الله على صافى النور مفوض الرحل، فصافحته وقوفاً بمكتب الاخ وزير النقل والمواصلات، ثم جاورته مصلياً بمسجد النخيل، وكلانا في ضيافة أسرة الشهيد تاج الدين الحلو بمناسبة عقد قران كريمته، وفى كلا الحالتين كنت أحرص على قراءة ملامحه لأطمئن من خلال قسماته إلى مستقبل قطاع الرحل. وللأسف في الحالتين خاننى المشهد، حيث بدت ملامح اللواء مكشرة وخواطره مبعثرة على فضاءات الافق البعيد، ويبدو عليه القلق الذى ظل مرسوماً على جبينه وبنفس ألوان النفس «القايم » التى لم تفلح الفترة الفاصلة بين اللقاءين «حوالى أسبوعين» في تغيير حدته، وعلى خلفية هذه الصورة لملامح المسؤول عن هذا القطاع الحيوى المهمل، خرجت بنتيجة واحدة مفادها أن مفوضية الرحل حبال بدون بقر، وإليكم شواهدى على هذا الإدعاء الذى أرجو أن يرقى الى ما فوق مرحلة الشك المعقول بوصفه بينة تعضد دعوتى التى أرجو من خلالها أن ألفت النظر إلى كنز اقتصادى نتفرد به في السودان دون سوانا، وبقليل من الاجتهاد والموضوعية يمكن أن نجعل منه مرتكزاً ودعامة اقتصادية رافعة للدخل القومى. نعم ينتمى الرحل الى شريحة القطاع الرعوى في بعده التقليدى الذى يعتبر من أخصب روافد نهر الاقتصاد السودانى.. ورغم العقوق البائن لهذا القطاع السخى، فقد ظل يلعب دوراً حيوياً في دعم محصلة الناتج القومى الاجمالي ب 17% عبر نوافذ عائدات تصدير اللحوم والجلود والانعام الحية «مؤشرات عام 2011م».. وللعديد من الاعتبارات يمثل هذا القطاع خط الدفاع الاول عن الهوية الوطنية، بحسبان أن مظلته تغطي 40% من التركيبة السكانية في السودان، وهم مجموعة المستفيدين بطريق مباشر أو غير مباشر.. والشىء المؤسف والمحير والمربك أن سياسة الدولة من خلال منهجها الاقتصادي وسلوكها السياسي تكافئ هذا القطاع بتناسٍ مقصود وجاهر نحسه في إهمال متعمد أضرَّ بالبنية التحتية للقطاع الرعوى فدمرها تدميراً كبيراً، مما الحق خسائر فادحة بشريحة الرحل التى دفعت الثمن غالياً بركلها خارج اهتمامات أجهزة الدولة التي أدمنت التدليل والتحيز للقطاعات الفاخرة كالبترول والتودد للاستثمارات الاجنبية التى ظلت عصية على الترويض رغم الاغراءات السخية التى تفضلت بها الدولة. ولكن يبدو أن للسياسة بكل ثقلها ظلالها على الموقف برمته. ويؤسف للتداعيات الخطيرة الناجمة عن الاهمال المستمر لقطاع الرحل التي نلحظها في الزيادة الرأسية والافقية للفاقد التربوي من أبناء الرحل «ولايات سنار والنيل الابيض وجنوب كردفان مثالاً». وذلك لعجز إدارة تعليم الرحل بوصفها مؤسسة عن امتصاص راشح الفاقد لضعف الامكانات وغياب الرؤية من قبل وزارة التربية والتعليم العام، مضافاً اليها عدم وجود تنظيم قانوني فاعل يسهر الليالي ليطوع الصعاب من أجل راحة هؤلاء المساكين الغلابى، الذين أضحوا كالعير تموت من العطش والماء فوق ظهورها محمول، رغم أنف اتحاد الرعاة الذى أشبه بشجرة المرفعين في علاقته مع الرعاة والشرح يفسد مضمون التشبيه!! وفى إطار هذا الإدعاء دعونا نتأمل مغزى ومضمون مفوضية الرحل التي تم إنشاؤها بموجب مرسوم رئاسي نحسن فيه الظن، ونقول قصد منه تقديم الخدمات «ولو في حدها الادنى» للرحل الغبش المنتشرين في ربوع الوطن.. ولكن شواهد الواقع تقلب حسن الظن الى ضده، لأن تدهور المرعى وتقلص مساحاته لصالح التوسع الزراعي كلها أشياء محسوسة لا تقبل التجميل، وما الاحتكاكات المستمرة بين الرعاة والمزارعين إلا نتاج طبيعي لتراكمات كمية تصنف في خانة الإهمال والتخطيط الخطأ الموروث. وعلى جهات الاختصاص مجتمعة أن تعمل على استعدال الصورة المقلوبة حتى يستقيم الميسم.. واللوم بالدرجة الاولى من نصيب اتحاد الرعاة الذي حشر نفسه في نفق السياسة، فركن الى حديث القاعات ليمارس دوره الخلوي وسط زحام المدينة، فوقع الطلاق بينه وبين هموم قطاع الرعاة، ومن جراء هكذا ممارسات أنزوى الرحل وهمومهم وواجهاتهم الرسمية والشعبية، أنزووا الى ركن قصي في ذاكرة الساسة، ومن بعدهم دهاقنة الخدمة المدنية الذين يمارسون هواية قتل الوقت بمزاج وظيفي محصن ضد بشارات المستقبل الاخضر. ومن صميم واجبات مفوضية الرحل أن تلعب دوراً فاعلاً في سد الفراغ الذى نجم عن تقاعس الأجهزة المعنية، وذلك باعتماد الأموال اللازمة واستقطاب التمويل لفتح المسارات وإعادة استزراع المراعى وصيانة الآبار والحفاير والدوانكى وتأهيل اسواق الصادر، مع العناية الفائقة بمدارس الرحل الظاعنة وزيادة انتشارها ورفع قدراتها وكفاءتها، كل هذا بجانب نشر ثقافة السلام وسط هذه الشريحة التي اصبحت تعانى الأمرين من طمع أهل الزرع وقسوة قوانين التلف الرادعة التى تجعل الرعاة ومواشيهم يتحركون على خط سير كالصراط بمحاذاة الطريق الرئيس للسكة حديد أو للواري والبصات السفرية، وللاسف تزداد معاناة الرعاة الرحل مع الايام لغياب الرؤية والتنسيق التكاملي بين كافة المعنيين بالأمر، ومن هذا المنطلق يصبح دور مفوضية الرحل حيوياً واستراتيجياً لسد الفراغ وتغطية المساحات الشاسعة بين جهات الاختصاص الحاضرة شكلاً والغائبة موضوعاً.. وفى ظل غياب التخطيط السليم متحداً مع نقص التمويل في ظل غياب كفاءات مهنية مؤهلة بمفوضية الرحل، ستظل المفوضية مجرد لافتة لمكاتب تستجدى الدعم لسداد المرتبات وتغطية مصروفات الشهيق والزفير لكائن يحتضر ليس في حاجة لقدرات لواء طيار نتف ضعف الامكانات ريشه، فعجز عن التحليق بالمفوضية فوق سماوات الإبداع والإنجاز التى ينتظر الوصول اليها من جراء حصاد غرس توجيهات الرئيس التي ظل يبعث بها سنوياً من مخيم البطانة، والتي تحرض في جوهرها على توظيف موارد الدولة لترقية هذا القطاع الحيوي. وبما أن لرئاسة الجمهورية إدارة متخصصة في متابعة تنفيذ القرارات والتوجيهات السيادية، فندعو باسم الرعاة والرحل هذه الإدارة الى تعقب مسارات تنفيذ قرارات السيد الرئيس التى ينتظر أن تجعل من مفوضية الرحل مرتعاً خصباً لأبقار السودان، وليس مستودعا للحبال بلا بقر. وأعتقد جازماً أن تخصيص 2% من اعتمادات موازنة عام 2013م لبرامج وطموحات المفوضية في إطار التنسيق مع وزارة الثروة الحيوانية وعطاء المانحين، كفيلة بالقفز بمساهمة هذا القطاع من 17% الى 25% من إجمالي الناتج القومي، وبطرفي المعادلات الرقمية والأرقام لا تكذب، إلا في حسابات كرة القدم التى تتأثر بعوامل أخرى ليست بالطبع من بينها الألبان واللحوم!! ودمتم بخير!!