أوردت في أكثر من مقال سابق عن الوضع الراهن في السودان ، انه قائم على سلطة الاخطاء القاتلة والتفرد الأحادي بالقرار ، وأصبح عدم الوفاق الوطني السمة السائدة للحكم. هذه السياسة أهملت رغبات وآراء السواد الأعظم للشعب السوداني ، المتمثلة في الحقوق المشروعة للمواطن ومنع الانتهاكات لحقوق الإنسان . كما انها تحمل في طياتها بذور الفتن المختلفة المؤدية إلى الدمار، بدلا من تحقيق النمو والرخاء وإحقاق الحق وكسب ثقة المواطن والدفاع عن أمنه واستقراره مع ضمان العدالة وفق الحقوق والواجبات. قادت هذه السياسة إلى الحروب الدائرة اليوم في دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، والنزاع حول أبيي، ما أدى للأزمة الاقتصادية الطاحنة المصحوبة بالفقر وتردي جميع الأوضاع الاجتماعية، ولا يمكن التغاضى عن انفصال جنوب الوطن. ان تمادي الدولة بالعنف وإعتقادها ان السلاح هو التعبير الوحيد عن القوة وحل النزاعات، أدى بالسكان إلى التشرد وقضى على أطر نماذج النسيج الاجتماعي الذي كان قائما وفي أوج تماسكه، فباتوا أما نازحين في الداخل أو لاجئين في دول الجوار. وخير مثال إقليم دارفور الواقع في محيط السافنا الغني، الذي كان منتجا لإكتفائه الذاتي من الغذاء، بل ممولا لإقاليم السودان الأخرى ومُصدرا للإنتاج الحيواني والحبوب الزيتية والصمغ العربي، ومصدر الثراء للكثير من أبناء أقاليم السودان المختلفة. ولكن أصبحت دارفور اليوم تعاني من الإنفلات الأمني «ولاية جنوب دارفور يضرب بها المثل في هذا الأمر ، حيث قامت مجموعة مسلحة قبل أيام بإقتحام المحكمة الكبرى في مدينة نيالا، والمتاخمة لمقر الحكومة وقيادة الفرقة 19 مشاة ، وأفرجت بقوة السلاح عن محكوم بالإعدام ورفاقه ، ليخرج الوالي في اليوم التالي ويعلن بكل بساطة ان المعتدين من القوات النظامية!» ، بل يعيش الإقليم على رحمة العون الغذائي الخارجي! هذه الأوضاع الماثلة للعيان في هذا الإقليم تدعو ابناءه وبناته في ظلال المؤتمر الوطني إلى التفكير الجدي العميق حول مواقفهم وكيفية إخراج دارفور من الأزمة الحارقة وألسنتها المشتعلة التي تقضي على الأخضر واليابس. لقد أتى النظام الحاكم محمولا على اكتاف أبناء دارفور وتحملوا معه أوزار حرب الجنوب. وبنظرة لصانعي القرار في مسرح نخبة الإنقاذ يجد المرء بان المنحدرين من الإقليم لا مكان لهم اليوم ، عكس ما كانوا عليه بالأمس ، حيث كانوا يلبسون ثوب القومية أو الوطنية السودانية. التفكير مطلوب خاصة وهناك عائلات مكونة من «8» أشخاص يعيشون على رطل سكر واحد فقط لمدة شهر كامل ، بل الأسوأ يجبر هؤلاء المغلوبون على أمرهم للإكتفاء بجالون ماء واحد طوال اليوم! بل الذين يموتون من الأمراض الفتاكة أكثر من ضحايا الحرب. هذه المسألة تؤكدها ضحايا الحمى الصفراء في ولايات دارفور ، والتي حصدت أرواح المئات خلال أيام قليلة ، ولم يصل المصل الواقي للوباء من المركز بحجة عدم وجوده، وانتظار جلبه من الخارج ، حتى عربد المرض وانتشر في فيافي وحضر دارفور الجريحة، علما بان الإجراءات الوقائية اتخذت بسرعة البرق عند ظهور أول مصاب في الخرطوم. أسئلة تطرح نفسها على الأثير، خاصة بعد حادثة شهداء ترعة النشيشيبة من الطلاب الأربع «وهم :1 الصادق عبدالله ، 2 احمد يونس نيل ، 3 عادل احمد حماد ، 4 مبارك سعيد تبن ، عليهم رحمة المولى الكريم والصبر والسلوان لآبائهم وأمهاتهم. وقال تعالى في كتابه الكريم : « ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ابدا وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما» . بل صاحب الأمر في اليوم التالي إخراج طالبات دارفور بجامعة الجزيرة بالقوة من الداخليات وقذف ممتلكاتهن في الشارع العام كما حدث من قبل لإخواتهن من الإقليم في داخلية الفتيحاب وجامعة الخرطوم، وأيضا الحرق الكامل لغرف طلاب دارفور بجامعة ام درمان الإسلامية ونهب ممتلكاتهم ! هل يعيش أبناء وبنات دارفور في النظام الحاكم مرحلة عدم إدراك ما لابد من إدراكه؟ هل يملكون وسائل الضغط السياسي لتغيير توجهات الدولة في ولاياتهم ؟ هل لا زالوا يملكون البوصلة الموجهة لتوحيد الرأي؟ هل تشتت الوعي ولم تبق لهم مطالب؟ أم عليهم الاستسلام والخضوع لما ألم بهم؟ إلى متى يستمر هذا التغاضي عن دماء آمال المستقبل «الذين اتوا من معسكرات النازحين ليصنعوا مستقبلهم ويصبحوا سندا لأهاليهم ، الذين ينتظرون بلهفة يوم تخرجهم، ولكن .... ، إلى متى يتجاهل هذا الحدث الأليم الذين هددوا بالإستقالة من المجلس الوطني في حال استمرار الحكومة التماطل في تشييد طريق الإنقاذ الغربي؟ هناك «6» وزراء و «86» نائبا في البرلمان القومي، ورئيس سلطة إقليمية بحكومته، ونائب رئيس جمهورية، جميعهم من دارفور. لقد سأل النازحون واللاجئون أخوتهم وأبناءهم هؤلاء، لماذا لا يهددون النظام بالإستقالة اذا لم تكشف السلطات عن الأسباب الحقيقية، التي أدت لإستشهاد هؤلاء البراعم ؟ بل لماذا لا يتقدمون بإستقالات جماعية احتجاجا على هذا الحدث المشين؟ لا أود الدخول في تفاصيل مجزرة طلاب دارفور بجامعة الجزيرة ، التي هزت الضمير والرأي العام داخليا وخارجيا، وكتب فيها الكثير. وحمل المندوب الامريكي الخاص لدارفور النظام ووثيقة الدوحة مسئولية الاسباب التي أدت للواقعة المشؤومة ، وأضاف ان الحكومة غير جادة في إجراء تحقيق في جرائم ارتكبت . بل وصف مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الجريمة بالقتل العمد. هذا الحدث الفاجع الأليم يتمركز الآن على قمة مآسي دارفور الجارية ، ويتوجب على النظام كشف الحقائق التي أدت لوقوعه للرأي العام ، وتقديم جميع المتورطين للعدالة في محكمة علنية، وبشفافية تامة. كما يتطلب الأمر إشراك القوى السياسية المعارضة والحصول على إجماع التوافق الوطني.