أثناء تجوالي في موقع «سودنايل»، وهو في تقديري من أكثر المواقع رصانة وحرصاً على إبراز الهوية السودانية بكل أطيافها السياسية والاجتماعية، أثناء تجوالي في هذا الموقع داخل شبكة الانترنت، استوقفني مقال كتبه الأستاذ/ حسن طه ينعي فيه قهوة النشاط بجامعة الخرطوم. وقهوة النشاط بالجامعة قد يكون الكثيرون لم يسمعوا بها من أبناء هذا الوطن، ولكنها تبقى برلماناً للرأي والرأي الآخر في وجدان طلاب جامعة الخرطوم، وفي وجدان الحركة الطلابية السودانية على امتداد الوطن. هذا المنتدى الطلابي كان يقع شرق الميدان الغربي لجامعة الخرطوم، وهو أقرب ما يكون لكليات الهندسة بمختلف تخصصاتها. وأذكر في مطلع السبعينيات كنا نتزاحم حول هذا المنبر لنطالع الصحف الحائطية، وكان أبرزها صحيفتا الجبهة الديمقراطية «مساء الخير» والاتجاه الإسلامي «آخر لحظة». والجامعة يومها كانت تعيش مناخ استقطاب حاد ما بين اليسار وقوى اليمين، وقد استأسد الاتجاه الإسلامي في ذلك المناخ وهو يرى خصومه من أهل اليسار خارجين من مغامرة 19 يوليو 1971م وهم مثخنون بالجراح. واستثمر خطباء الاتجاه الإسلامي المفوهون أمثال أحمد عثمان مكي «رحمه الله» وبهاء الدين حنفي وغيرهم تلك المغامرة الدامية لأهل اليسار، وصاروا يكايدونهم بشهر عسلهم مع نظام مايو، وبأقوال تُنسب لليساريين مثل «لن تصبح الجامعة جزيرة رجعية في مدّ ثوري هادر». ففي أيام شهر العسل المايوي اليساري كان راديو أم درمان يلعلع صباحاً ومساءً بصوت النميري وهو يردد: «إن أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وكلاب صيدهم من الإخوان المسلمين هم أعداء هذا الشعب». وبالمثل كان خطباء اليسار يتصدون لتلك المناكفات، وفي «هايد بارك» قهوة النشاط متسع للآخرين من بقية التنظيمات السياسية مثل الطلاب الجنوبيين وجبهة وحدة الطلاب التي كان قوامها الطلاب المستقلون. والطلاب كانوا يصقلون وعيهم السياسي من مثل هذه الحوارات السياسية الحرة المفتوحة، ومن ضاق بغلظة الساسة ففي صالون «حمودة» حلاق الجامعة الأشهر بقهوة النشاط ترويح وضحك وطرائف. وقهوة النشاط هذا المنبر الذي تهاوى كان ترياقاً ينزع فتيل الاحتقان السياسي بين الطلاب، حيث كانت المجادلة بالكلمة الرصينة والمنطق السوي.. لا بالرصاص والملوتوف والكلاشات كما يحدث الآن..!!