قلت فى مقالٍ سابق إن أزمات الحكم فى قارة أفريقيا هى معضلة حقيقية تقف عقبة كأداء فى سبيل إنتشال القارة ، الموبوءة بالمرض والجهل والتخلف ، من وهدة تخلفها وإنحطاطها فى شتى مجالات الحياة ، لنكتشف فى خاتمة المطاف أن أفريقيا لا تُعانى فقط من إبتلاءاتها المعروفة والمتمثلة فى ثالوث الجهل والتخلف والمرض وإنما هناك داء أشد فتكاً من كل هذه الأدواء ألا وهو وباء الصراع حول السلطة وشهوة أبنائها المستعرة لمعاقرة السلطة ووطئها مهما كلف الأمر من تضحيات تستهدف إستقرار البلد المعنى وإزهاق أرواح الملايين من البسطاء والعُزّل من مواطنيه ، لتُبتسر البلاد والشعوب وتُختصر فى شخص أو أسرة أو طائفة أو مجموعة حاكمة تُسخّر لها كل الإمكانيات والقدرات من أجل أن تحكم وتتحكم فى مقدّرات الأمة خدمةً لمصالحها الشخصية ومصالح أسرها وأقربائها ! فى وقتٍ تستدعى السريرة السوية والنفس الوطنية الحقة أن لايتصدى لسياسة العباد والبلاد إلا من يملك القدرات الحقيقية للقيام بهذا العبء الوطنى الذى يتطلب عزائم لا تلين وصدقاً منقطع النظير ، فالرائد لايكذب أهله . أين نحن فى السودان من كل هذا ؟ نحن من أفريقيا ، صحراؤها الكبرى وخط الإستواء ، ورغم إدعائنا و ترفعنا عليها وعلى الأفارقة وتبجحنا بحضاراتنا وممالكنا التأريخية وسلطناتنا التليدة ، إلا إننا أسوأ حالٍ من باقى دول أفريقيا وشعوبها لأن ماأُتيح لنا لم يتح لها وذلك بإعترافنا بأننا كنا نملك الحضارات والعلوم والممالك والأهرامات والفرعنة السوداء على نحو ما نسمع هذه الأيام وهو ما لم يتيسر لها ، فما بالنا نطيح فى لججٍ من التعقيدات ليصبح السودان محيطاً هائجاً بلا قرارٍ من الأزمات والمشاكل ؟ ثم نفرح ونهلل فى فرحٍ ساذج لأننا تمكنا من الإمساك بأهداب سلطة كنا نمسك بها ولم نفعل بها شئ سوى تعميق جراح بلادنا وتعقيد أزماتها وتعزيز إنقسام أهلها !. لست أدرى كيف يستخف طرباً من أوقعه حظه العاثر فى أن يكون حاكماً على بلد مثل هذا السودان الملئ بالأزمات والقضايا العالقة المعقدة ؟ كيف يفرحون وهم يدركون أن التصدى لمثل هذه المشكلات التى تبدو وكأنها بلا حلول مجرد إنتحار سياسى وإجتماعى وأخلاقى ؟ بل أعجب لأولئك الآخرين الذين ظلوا يسعون خلفها لعقودٍ خلت وهم لا يملكون أى مؤهل يُعينهم على حل هذه المشاكل المستعصية بل فى كثيرٍ من أوجه قضايانا نجدهم هم أهم فصول مآسيها وتعقيداتها والعلة الحقيقية وراء تخلف السودان ، لقد نسى أهل المشروع الحضارى وكل المتهافتين بأسم الدين وطوائفه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: إنكم ستحرصون على الإمارة وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة . بعد توقيع إتفاق السلام الشامل كنا نحسب أن الأمور ستؤول إلى الأفضل وأن البلاد سيعود إليها الإستقرار والهدوء وأن الإتفاق سيمهد الطريق نحو إستقرارٍ سياسى عن طريق تهدئة الأوضاع الملتهبة ليلتقط السودانيون أنفاسهم التى أرهقتها الحروبات الأهلية ثم يبدأوا فى التفكير فى نهجٍ سليم لحكم البلاد خاصةً وأن الإتفاق تحدث عن التحول الديمقراطى والتداول السلمى للسلطة وإشاعة الحريات العامة وإحترام الحقوق المدنية للمواطنيين ، ولكن ما أن بدأ تطبيق الإتفاق حتى تبين للناس حجم الهراء الذى جاء به وبدأت تتكشف أكذوبة الوحدة الجاذبة ولعبة المزيدات السياسية ويزداد حجم الأخطار التى أصبحت تُحدق بالوطن لتُصبح كل بنود الإتفاق مجرد شعارات جوفاء بما فيها حق تقرير المصير الذى يعتقد الأهل فى الجنوب أنه مكسب لايضاهيه مكسب ولست أدرى أى مكسب هذا الذى يفتت الوطن ويمزقه إرباً ويُحيله إلى دويلات لاتقوى على رد أى شر يُراد بها ؟ أى مكسب هو ذاك الذى يجعل بعض المواطنيين يتخلون عن وطنٍ أسهموا فى تشكيله وفى بنائه رغم أنف الناكرين؟ يحدث هذا فى وقتٍ تتجه فيه الشعوب وتنزع نحو التوحد والتكامل ما وجدت إلى ذلك سبيلا . ماذا كسبنا من إتفاق نيفاشا غير الحصاد المر ، فبدلاً من أن تفرز الحرب الضروس التى تحمَّل السودانيون أوزارها لما يزيد عن النصف قرن أوضاعاً أفضل ومستقبلاً أكثر إشراقاً ، أفرزت أشكالاً جديدة من الهيمنة والصراع حول السلطة وتفتت وإنقسام وعلوٍ وتجبر للبعض ومزيداً من التحكم فى الرقاب ، لتضيع الآمال والأمنيات فى حكمٍ راشد وتداولٍ سلمى للسلطة وتقاسمٍ عادلٍ للثروة والتنمية وتصبح هباءً منثورا ، أما الخسارة الكبرى فهى ضياع وطنٍ عملاق مساحته مليون ميل مربع وتلاشيه من الوجود ، وإن لم يكن عملاقاً اليوم فبإعتبار ما يكون وبإعتبار ما يملك من ثروات طبيعية وبشرية . كنا نطمح فى وطنٍ معافى موحد يسع الجميع بعد أن ورثناه من أجدادنا وقد قدموا أرواحهم رخيصةً فى سبيل أن يبقى هكذا ، موحداً معززاً و نامياً ، ولكن خلفهم خلفٌ أضاع هذه المفاهيم ، بل حاول تكريس مفهوم جديد للوطن والمواطنة يرتكز على وراثة الحكم والوصول إليه بأى ثمن حتى ولو عن طريق إنتخابات صورية مشوهة والتحقير من شأن الآخرين وإقصائهم والإنفراد بحكم البلاد وتسخير مقدراته وإمكانياته لصالح شرائح صغيرة من مجمل سكان البلاد ولذا كانت النتيجة الحتمية لمثل هذا السلوك هو حمل السلاح والقتال بضرواة من أجل تصحيح هذه الأوضاع المقلوبة ، ويترى حمل السلاح من إقليم لآخر من أقاليم السودان فى ظل التعنت والمكابرة وعدم التعلم الذى يُبديه الوارثون للحكم من الذين سنحت لهم الفرصة لتولى مقاليد السلطة فى البلاد ، من الإستقلال وحتى اليوم ، فى الوقت الذى يزداد فيه المهمشون والمغبنون إصراراً على وضع حدٍ لمظالمهم وهكذا يبدأ الوطن الكبير الموروث فى التآكل والتلاشى بما كسبت أيدى بنيه .