هذه العبارة ينسبها البعض لرئيسة وزارء الهند الراحلة أنديرا غاندي، بينما ينسبها آخرون للشاعر الهندي المعروف روبندرونات طاغور، وربَّما تكون حكمة أو موعظة صاغتها التجربة الانسانية في تلك البلاد ذات الموروث الحضاري العريق. وفي كل الأحوال هي عبارة تختزن مغزىً عميقاً، فالقبضة تعني تجاوز إضمار نية اللكم إلى الاستعداد الفعلي له، ولذلك فمن الطبيعي أن تُقابَل بقبضة مضادة وليس بكفٍّ مبسوطة للمصافحة بأصابع رخوة. نسوق هذه المقدمة للرَّبط بين دعوات الحوار والوفاق التي يطلقها قادة الإنقاذ من حين لآخر وبين «القبضة» التي ما انفكُّوا يرتكزون عليها، لا على شئٍ سواها، في تأمين نظامهم ويتعاطون عبرها مع كلِّ معارضيهم. فالدعوة للحوار والوفاق لا تتسق مع الاجراءات التي تتم من خلالها مصادرة الصحف وإغلاق مراكز منظمات المجتمع المدني وتحريم الحراك الانساني الحر وسوق الناس للاعتقال التحفظي دون محاكمة، ولا تنسجم مع تخوين المعارضين بالرأي والتهديد العنيف بحسمهم. إنه كمن يرفع سيفاً في وجه منافسه، ثم يدعوه بمعسول الكلام إلى حوارٍ هادئٍ ومفيد!! والسيف إذا رُفِع أبطل الخيار ولم يترك مجالاً لحوار. الدعوة للحوار والوفاق التي أطلقها الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الأسبوع الماضي، نخشى ألا تختلف عن دعوات «المراكبية» التي ظلَّ قادة النظام يطلقونها من وقتٍ لآخر، خصوصاً عندما تحاصرهم الأزمات. فقد جاءت دعوة النائب الأول، كسابقاتها، خلواً من مجرد إعلان الرغبة في تحقيق مطلوبات الحوار وأشراطه المعلومة للجميع، وبدت غير مقنعة لأنصار النظام، قبل معارضيه، بجدِّيتها، ما دفع د. غازي صلاح الدين، القيادي في الحكومة وحزبها، أن يعلِّق عليها بقوله: «ليس كافياً أن نعلن أننا سندير حواراً فقط، بل يجب اتباع اجراءات لتهيئة المناخ الصحافة 29 مارس 2013م». أمَّا دعوة الحوار التي أرسلها رئيس الجمهورية عبر خطابه أمام الهيئة التشريعية القومية أمس الأول، فرغم جدارة القرار الذي صاحبها، والقاضي بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، بالترحيب «إذ لا شيء أشد قسوة على النفس من مصادرة حرية إنسان والزجِّ به في ظلام السجن ظلماً وعدواناً»، ورغم أهمية هذه الخطوة فإنَّ الأهم منها هو التأسيس الراسخ لما يُحرِّم سجن الرأي والضمير وذلك بإلغاء القوانين التي تبيحه، إلى جانب منع الأجهزة الأمنية من مراقبة الصحف ومصادرتها وحجر كتاب الأعمدة، وإنهاء احتكار حزب المؤتمر الوطني لأجهزة الإعلام المملوكة للشعب وتمكين جميع الأحزاب والمنظمات من التواصل الحر مع الجماهير، فبغير هذه الشروط الدنيا تبقى دعوات الحوار بلا معنى وتتحول إلى مونولوج سياسي بلا نهاية بحيث يتحاور النظام مع نفسه ولا يصغي إلَّا لصوته، مثل الشاعر الجاهلي الذي يخاطب خليليه وهو واقفٌ على الأطلال بمفرده، لا يرى بجواره غير ظلِّه الصغير. إنَّ الكلام عن الحوار يختلف عن الكلام من داخل الحوار، لأنَّ الأول إنشائي ومجَّاني، أمَّا الثاني فهو تحليلي ونقدي وله استحقاقات وتبعات يتحملها أطراف الحوار.. وقد يصدق على دعوات الحوار الانقاذية ما سمَّاه الأستاذ محمد حسنين هيكل: «المسافة بين زهو الكلمة وقدرة الفعل»، فأحياناً يتم اللواذ ببلاغة اللسان واستخدام اللغة التحايلية لتعويض نقص أساسي وجوهري في سلامة الموقف من قضيةٍ ما. لقد أبت «القبضة» المحكمة أن تخيِّب الظن، وقدَّمت بياناً عملياً على «مراكبية» دعوة الحوار، بعد يومٍ واحد على إطلاقها، وذلك حين منعت السلطات الأمنية مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية من مواصلة عقد ورشة كانت تناقش واحدةً من القضايا التي دعا النائب الأول للحوار حولها: «الدستور القادم، البدائل والخيارات المطروحة»، بحُجَّة أنَّ نقداً وُجِّه للحكومة خلال الجلسة الأولى لهذه الورشة.. وهذا الإجراء التعسفي ليس معزولاً عن رؤية النظام التي عبّر عنها د. الحاج آدم، نائب رئيس الجمهورية، خلال مخاطبته مؤتمر العودة الطوعية وإعادة التوطين بنيالا، بقوله: «هناك كلام غريب جداً عن العدالة والحكم الرَّاشد، نحن لسنا بحاجة لمن يعطينا درساً في حكم السودان ونعلم كيف نحكم البلد وما في واحد يتحدث لينا عن العدالة الانتباهة 26 مارس 2013م». وإذا كان ما قاله الإمام النفري، الصُّوفي الحكيم، عن اتساع الرؤية وضيق العبارة صحيحاً، فإنَّ من يزعم احتكار الحقيقة ويدَّعي العصمة تضيق رؤيته، وإن اتسعت عبارته، ويضيق بالحوار ولا يستطيع أن يبسط يده للمصافحة التي تسبقه، ولا يجد بديلاً عن استعمال «القبضة» لإقصاء الآخر المُختلِف. وهكذا يصبح الكلام عن الحكم الرَّاشد «غريباً جداً» والحديث عن العدالة من «الممنوعات».. ولا عزاء لأستاذ الأجيال محجوب محمد صالح الذي لم يجد ما يقوله، بعد فضِّ ورشة الأيام الحوارية بحُجَّة نقدها للحكومة، سوى أن يتساءل بمرارة: «ماذا تتوقع الحكومة حينما تدعو المعارضة للحوار غير النقد؟».