الزمان مطلع الثمانينات، المكان مدخل مدينة كسلا و رجل هدندوي فى كامل هندامه التقليدى وشعره الكثيف يقف على حافة شارع الاسفلت بلا حراك متحديا حرارة الطقس ، متكئا على عصا كأنها مثبتة فى باطن الارض منذ قرون ، واضعا احدى قدميه على منتصف القدم الاخرى على شكل مثلث متساوى الاضلاع دون ان ينال منه التعب والارهاق والرياح التى كانت تعصف بكل شئ ، يمسك بحرص على مقبض سيف يتدلى من كتفه كأنه يتأهب لمنازلة عدو مرتقب ، يضع على رأسه خلالا مصنوعا من الخشب، يرنو الى السماء فى عزة وشموخ كأن صاحبه يمتلك الدنيا باكملها ، لا يكترث للضجيج الذى تحدثه السيارات من حوله ، يقف فى انتظار ان تأتى اليه السيارة التى ستقله الى قرى القاش وتقف بين يديه ذليلة مثل جبل تغازله الشمس طول الأبد دون ان يتحرك نحوها ،كانت تقف بجوار الهدندوى عربة حكومية تقل عددا من المسؤولين احدهم يحدق فى منظر الهدندوى مأخوذا بهيئة الرجل ثم يهمس الى من يجلس بجواره «هذه لوحة بديعة» ويطلب من السائق ان يتوقف لحظات فى انتظار سقوط الرجل من التعب والرهق ، ثم ما تلبث العربة الحكومية ان تتحرك بعد ان طال الانتظار ونال التعب والارهاق من ركابها والمسؤول الحكومى يطلق ضحكة مجلجلة اعجابا بتحدى ذلك الهدندوى للزمن والطقس والفقر والظروف الاقتصادية والبيولوجية والفسيولوجية . كان ذلك المسؤول حينها هوالقاضى علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية حاليا ، والشخص الذى كان يجلس بجواره هو حينها القاضى محمد أحمد سالم رئيس مجلس تسجيل الاحزاب السابق ، هذه الواقعة رواها لى سالم قبل سنوات معبرا عن اعجاب وتقدير علي عثمان بأهل الشرق. لا ادرى ان كانت تلك الزيارة هى الاولى لطه الى كسلا ام كانت هنالك زيارات سابقة ،ولكن الزيارة التى قام بها النائب الاول الى ولاية كسلا الاسبوع الماضى تبقى احدى الزيارات التاريخية التى ستكون عالقة فى ذهن مواطنى كسلا من واقع الظروف الاقتصادية والتحديات التنموية التى يعانى منها سكان الولاية ، وكذلك البشريات التى اعلن عنها النائب الاول فى خطاباته الجماهيرية لاهل الولاية ، حيث لم يتوقف كثيرا تحت اضواء مهرجان السياحة الذى نظمته حكومة الولايةو بل ذهب الى المناطق الريفية المظلمة ، ربما بحثا عن ذلك الهدندوى الذى لا يرتاد مثل هذه المهرجانات حتى لو اتت اليه تجرجر اذيالها المبهرة ، ولا يقف متوسلا على ابواب الحكومة فى برجها العاجى ، لا ينازعها السلطة عندما تفشل وتتغافل عنه وتبعده عنها بالرغم من انه صاحب ارض ووجع وقضية ، يترك الحكم للتاريخ وللشعب ولمن هم اعلى فى السلطة ومن فوقهم الله سبحانه وتعالى ، يقولون ان التاريخ يمنح صاحبه عزة واصالة وقناعة قاتلة وينزع من قلبه الجشع والتهافت ، ربما هذا ما دفع ذلك الهدندوى ان يقف وقفته التاريخية الماهلة تلك . ذهب طه الى ديار الهدندوة فى تلكوك واروما حاملا البشريات لاهلها مذكرا حكومة الولاية بواجباتها تجاه الريف وسكانه الفقراء ، وحثها للبحث عن موارد حقيقية عبر الاهتمام بالقطاعات الانتاجية المهملة والمظلمة مثل الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة ، ليس بالبحث عن موارد تحت كشافات مهرجانات السياحة التى لم يؤمها سوى اهالى مدينة كسلا، ووجه طه الحكومة بتغيير صورة الولاية بالانتاج والبرامج الهادفة لكل الناس . وفى هذا الشأن جاءت اولى البشريات واهمها بتوجيه النائب الاول لحكومة الولاية بوضع دراسة شاملة لتأهيل مشروع القاش الزراعى الذى يعتبر ولي أمر المنطقة وجمل الشيل عبر برنامج النهضة الزراعية ، فهى فرصة يجب ان تغتنمها حكومة الولاية من اجل مكافحة الفقر و امراض سوء التغذية وسد الفجوة الغذائية وخفض نسبة وفيات الامهات والاطفال دون سن الخامسةو وتحسين الخدمات الصحية والتعليم وتوفير مياه الشربو بالاضافة لتوفير ايرادات حقيقية لخزينة الولاية ، يجب ان لا تتغافل وتنشغل الحكومة بمشروعاتها المبتكرة مثل انارة جبل التاكا وحديقة وسط المدينة ومهرجانات السياحة و فضائية كسلا . كذلك من البشريات التى اعلن عنها النائب الاول فى اروما استعداده لدعم مشروع كهرباء اروما ، وهو مشروع تم تنفيذه بجهد شعبى عبر الاستدانة من البنوك بعد ان يئس سكان المدينة من دعم صندوق اعمار الشرق، وادركوا ضعف حيلة حكومة الولاية ، ذهب سكان المدينة الى البنك طلبا لتمويل أصغر وكل واحد منهم يحمل فى يده دراسة جدوى لعمود يمر بجوار منزله ، والان بعد ان اكتمل إنشاء الشبكة الداخلية للمشروع اصبح المواطنون مطالبون بدفع 200 جنيه شهريا كاقساط تذهب الى البنك الممول ، الامر الذى جعل المواطنين يعزفون عن ايصال الكهرباء الى منازلهم ولا يعفيهم ذلك من تحمل المسؤولية القانونية وتحمل تكلفة المشروع التى تبلغ عشرة مليارات جنيه بالقديم ، والنائب الاول قد وجه بدعم الفئات الفقيرة حتى تستفيد من مشروع كهرباء اروما ، ولكن بعد تدهور مشروع القاش اصبح جميع سكان المدينة تحت خط الفقر بمن فيهم معتمد المحلية الموظف السابق بصندوق التكافل الذى ظل ينفق راتبه الشهرى فى ايجار عربات «الاتوس» لنقل المرضى من مستشفى اروما الى كسلا بسبب تردى الاوضاع بالمستشفى ونقص الكوادر، ويشكو المرضى بان مستشفى كسلا ليست افضل حالا من مستشفى اروما حيث لا يسمح احيانا للمريض المكوث اكثر من 6 ساعات بالعنبر بسبب التكدس والزحام والضغط على الاسرة والعنابر، لذلك نناشد النائب الاول بتوجيه صندوق إعمار الشرق بتحمل تكلفة مشروع كهرباء اروما خاصة ان اروما لم تحظ باى مشروع من مشروعات صندوق الشرق، التى كشفت جولة الصحفيين الاسبوع الماضى ان معظمها غير مستغلة تم إنشاؤها فى مناطق غير مأهولة . عموما زيارة النائب الاول الى كسلا حققت نجاحات كثيرة وحملت بشريات عديدة لسكان الولاية اهمها التوجيه بتأهيل مشروع القاش الزراعى ، واضعا بذلك بنظرته الثاقبة وخبرته فى العمل العام يده على الجرح وكتب له الوصفة الناجعة، صحيح ان مشروع القاش موضوع ضمن برنامج تأهيل المشروعات الزراعية عبر اموال المانحين بمؤتمر الكويت، ولكن ترتيبه يأتى بعد مشروعى حلفاالجديدة الذى سيبدأ العمل فيه قريبا ومشروع طوكر الزراعى وقد يستغرق ذلك سنوات وسنوات ، ربما ادرك النائب الاول ان الزمن ليس فى مصلحة انسان المنطقة ويتسق ذلك مع ما قاله فى تلكوك دون سابق انذار بدعوته الى محاربة المنظمات الاجنبية وعدم منحها الفرصة لاستغلال الأوضاع بالمنطقة .