شابو.. الاسم بالكامل عبد الله ابراهيم موسى. ولد بمدينة الكوة من أعمال النيل الابيض، وشرب من نيلها الهادئ حتى ارتوى، علما بأنه من مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية المليئة بالضجيج ودوي القنابل والمدافع، ومع ذلك فقد جاء في زمن المواكب والمظاهرات المطالبة بالاستقلال.. جاء شابو الى الخرطوم في ذلك الزمن الذي رفعت فيه شعارات التحرر الوطني، ونشط فيه الشعر الهتاف والقوافي الصاخبة مثل: يا شعبي قم خض بحار الدماء سوف أحمل روحي على راحي وأرمي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا ومثل: هيا هيا شباب النيل هيا عزة في هواك وطن الجدود وغيرها مما حفظته ذاكرة الشعب من مطلع القرن الماضي حتى نال الوطن الاستقلال والحرية... في مثل هذه الاجواء الداخلية، والمد العالمي للتحرر الوطني، تلمس شابو طريقه الى الشعر. وديوان «حاطب الليل» ظل معي منذ عام خمسة وتسعين وتسعمائة والف، وانا ابحث عن هذا الحزن الشفيف الذي ملأ على شابو اقطار حياته «فأنتج» ثماني عشرة قصيدة بها كلمة حزن تتكرر أكثر من عشر مرات على امتداد الديوان. وكما قال الأستاذ محمد المكي ابراهيم في مقالة له عن شعر شابو إنه خالٍ من التواريخ في آخر القصيدة، ولو كان ذلك مدونا على الاقل لعرفنا فاعل كل هذا الحزن، ولاسترحنا من اتساع دائرة الخيال في اسقاط كل الحصى على كل الشواطئ القريبة والبعيدة، ولابتعدنا عن مضغ المتناقضات الكثيرة التي شابت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وهي نتاج طبيعي للحراك الذي بدأ مع مطلع الاستقلال لخلق أمة السودان بكل اختلافاتها الإثنية، ولغاتها المقروءة ولغة الأحاديث مشافهة عن سلوك وعادات وتقاليد في جوانبها المتعددة من سياسية واجتماعية وغيرها، مما جعل التراكم التراثي من أثرى المكونات الثقافية التي لو اطلق لها العنان لجابت انحاء العالم خلقاً وابداعاً. في كل هذه الاجواء والامواج الثقافية المتلاطمة، تلقى الشاعر شابو العلوم الهندسية في معهد الخرطوم الفني - جامعة السودان الآن - وعمل مهندساً ثم استاذا، ثم جاب اوروبا وعبر الاطلنطي الى الولاياتالمتحدةالامريكية ، وكما قلت سابقا في مقال لي عن شابو، وصل امريكا بلاد العم سام التي اجزم ان سكان كلورادو لا يعرفون احدا في نيويورك، ويظنون ان افريقيا ما هي الا غابة كثيفة سامقة الاشجار ومتشابكة فروعها الشوكية والملساء، مع الثعابين والأسود والغزلان، تماما كما صورها الممثل ليكس باركر في افلام طرزان. ونضيف لشابو أن فترته في اسبانيا وتعلم اللغة هنالك قد اضافت اليه حلاوة الشعر الاسباني في مظانه اللغوية، وربما لما عاد الى السودان رأى ما احزنه هذا الحزن الذي نحن بصدده. ولنبدأ بأغنية ليلية «1»: في الليلة الأخيرة وعندما بكيت فوق أذرع الوداع وشق ليلي العجوز صوتك البعيد كالصدى تكثفت من حولي الوجوه من دون حزن إلى أن يصل للمقطع الذي أريد أن اقارنه بقصيدة رومانسية للتيجاني يوسف بشير فاليوم خمري الأثير مُر وشعرها الذي مسحت عارضي فيه تمائم مرّجلة وثغرها الذي شربت في صبايا تفاحة يبيسة تعلقت على خطايا يقول لي أسايا وحزني الخبئ في دمايا مضى نهارك المضاء عبر غرفتي مضى سوى هشيم هذه البقايا ويقول التيجاني يوسف بشير: آه لو تغسل الدموع جراحا آه لو ينفع البكاء شجيا لفها الدهر في حنادس ياس لا أرى للمنى بصيصا مضيا وامد الكفيف احسب اني واجد في الظلام منها جنيا إلى أن يقول: والأماكن الحسان كالنغم الحلو ٭٭ وإذا ضاع في الرياح ذريا فاملئ كأسك الدهاق وهاتيها أروي بها فؤاداً صديا وبالطبع مع الفرق الكبير بين رومانسية التيجاني وواقعية شابو، إلا ان الشيء بالشيء يذكر. وقد يجد الشاعر الواقعي أن الرومانسية ضرورية في تفجير المكنون الذاتي الذي يرسب في أعماق النفس البشرية، ولا مخرج له في دنيا الواقع سوى الالتفاف والتجريد حتى يكون المتلقي «على كيفه» «يفصل ويلبس»!! ومثال آخر يقول التيجاني يوسف بشير: قلب رمته السنون ٭٭ بين مراقي الجبال ملء فضاء الظنون ٭٭ ملء سماء الخيال تنال منه العيون ٭٭ ويطيبه الجمال يقول شابو: «حجر» 2» ماذا عليك إذا ابتعدت ماذا عليك إذا انقضى زمن الغناء وصوحت أمجاد عمرك في الربيع حجراً غدوت على الطريق مراقباً هذه الخطى حجرا تكثف ثم أقعى في طريق السابلة وقديما قالوا: «تسافر كثير تشوف كثير»، وهذا ما حدث للشاعر شابو، فقد سافر كثيرا وعرف كثيرا، وعاد الى وطنه، وتغيرت ملامح كثيرة، وتمت معادلات لا حد لها في العلاقات الإنسانية وتغير أناس كثيراً. ولمعرفتي الشخصية بشابو، فقد ظننت عندما اطلعت على الديوان اول مرة، ان مرارات كثيرة قد مرت به، وحاول الشاعر اخفاءها في هذا الحزن النبيل، ولكن طبيعته السوية وفكره الحر قد تجاوز ذلك، ودخل في لب معظم القصائد في الديوان: تنزلي سحابة الأسى شعاع «3» ولتزهري على جدار دارنا قرنفلا وانعقدي نضاعة خضيلة وجدولا ولتفتحي فؤادي الحزين واجعليه حديقةً من الظلال والضياء والشجر ومرري لسانك اللهيب فوق جبهتي وثبتي على يدي أشرعة أكون ضائعاً ورائعاً وليس واغلاً على حفاوة الزمن هذا هو الحزن النبيل والفرح القليل المتمسك بالشروق وفي زمن البياتي وأباريق مهشمة، وبدر شاكر السيَّاب في المعبد الغريق، ودواوين عدة عناوينها تخبئ مكنون ما في نفوس مبدعيها في العالم العربي أيام النهضة الناصرية والنكسة، وتراجع الوحدة والصراعات المذهبية التي أطلت برأسها بعد الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين، كل ذلك جعل الحزن يقيم في قلوب المبدعين من الشعراء. وكان شابو قد شرب منه وارتوى، إلا أنه لم يتقلد طريقهم الكتف بالكتف، حيث له حزنه من جهة أخرى في مقاطع قديمة: «4» من ذا يسوعك يا ركام الحقد من يجري مياه الحب في شريانك الصدئ القديم فلقد ترهل حسك المنهوم في وحل الحياة الزائفة وتهرأت أثواب فطنتك العجوز فاقذف بنفسك من إطار النافذة وبالقطع ليس شابو دون كيشوت ليتبع آثار سيرفانتس وتابعه سايكوبنزا.. إنه ابن معارك معروفة في أيام ولدت الأحزان والأشجان. شابو يكتب في مقاطع كثيرة، واتخيله يضع صورة لوركا الذي اغتاله الدكتاتور الاسباني فرانكو. وبعد قراءة لوركا بلغته الأصلية لا اقول ان شابو تأثر به، ولكنه معجب به وغارق في حزنه عليه، كما حزن كثير من شعراء اليسار على انتحار أبو ذكرى وشيبون. وإنه مما يؤسفني أنني لم أطلع على أي مقال عن هذا الديوان سوى ما ذكرته في المقدمة، واتمنى أن يغوص فيه من هم أطول باعا واكثر اطلاعا، لأن ما كتبته هو انطباع قارئ يعرف الشاعر ومعاصر له في هذا الزمان الذي ضاعت فيه حقائق كثيرة نرجو أن ترى النور. هوامش: «1» ديوان الشاعر حاطب الليل. «2» ديوان اشراقة: التيجاني يوسف بشير /1 أغنية ليلية ص 34 /2 حجر ص 38 /3 اغنية ليلية 34 /4 مقاطع قديمة ص 8 آخر ما كتبه المهندس محمد ابراهيم الخليل رابطة سنار الأدبية