في الحقيقة فإنَّ سوقي (بروس) و(ستة) يُمثِّلان وجهان لعملة واحدة، حيث يجمع بينهما الفقر المُدقع وبؤس المُتسوِّقين، فمُجرَّد دخولك لأيٍّ منهما يرتفع عندك حاجب الدهشة، فالواقع أقرب للخيال.. الحقائق صادمة بدءاً بروائح المواد العُضوية المُتحلِّلة بالمصارف، والتي تكاد تصيبك بالزكام. في تجوالنا بالسوق تابعتنا، بل لاحقتنا بتوجُّسٍ نظرات التجار مقرونةً بالحَيطة والحَذر في عدم التجاوب والرد على أسئلتنا، فكل صاحب بضاعة يرمقنا بنظرة تُفسِّر عن مدى تخوُّفه من جانبنا، فمنهم من يُخيّل له أننا نتبع للقوات النظامية، ومنهم من يرانا – أنا وزميلي سعيد عباس – من ضُباط الصّحة، ومنهم من ظَنّ أنّنا نبحث عن معلومة غائبة علينا، هذا خلاف من اعتقد أنّنا ضللنا طريقنا إلى هذا المكان الوعِر. الزعيم عنتر عندما توجَّس مُعظم التُّجار وأحجموا عن الرد على أسئلتي، انتفض رجل حاد الصوت ممشوق القوام، رحّب بي بعد أن عرف بخبرته بأنّني صحفي، حيث كرّر الترحيب مرّةً ثانيةً، وأردف مُعرِّفاً نفسه أنه الزعيم عنتر محمد (شيخ السوق) والمتحدث الرسمي باسم التجار لأنه أول من قام بتوريد لحوم الفراخ من المَزارع إلى السوق، وقال إن كل ما يُعرض بالسوق عبارة عن بضائع طازجة (فِرَيش)، وإن لديه خطاباً من وزارة الصحة وتصريحاً يُؤكِّد ذلك، وزاد في قوله: (شوف الخطاب دا لأنو الكلام كتير في شغلنا، ونحن شغّالين دُغري ما بنعرف اللف والدوران). عنتر قال ل (السوداني)، إنّ سعر كيلو الفراخ 30 جنيهاً وسعر الكوم ثلاثة جنيهات، وإنّ أسعار السوق في مُتناول الجميع (قدِّر ظُروفك)، وإنهم يُراعون الوضع الاقتصادي بالبلاد، وقال إنّ المواطن في هذه المنطقة بسيطٌ من حيث طريقة عمله وبساطة وضعه الذي يجبره على ارتياد هذا السوق، مُضيفاً: (العين بصيرة واليد قصيرة)، وقال إنّ التجار بالسوق يطلق عليهم (إخوان الفقراء) في إشارة إلى أنهم مع المساكين، بمعنى أنّ المُواطن الذي لا يستطيع شراء اللحوم يأتي إليهم ويأخذ ما يُسمى بالمُشكَّل بقيمة (5) جنيهات وهو عبارة عن أرجل دجاج وقوانص، ورأس الدجاج، ورد على سؤالي عن أسعار نافق الفراخ أو ما يُعرف ب (الله كتلا)، إنّ السوق خالٍ من هذا المُنتج، وإنّ ما يتردّد عبارة عن شائعات وعار عن الصحة، وأضاف مُحدِّثي: (نحنا بنجيبها من الشركة بي دمها طازة). مصران عصبي فتاة في مُقتبل العمر أخذت ركناً قصيّاً من السوق تقوم ببيع (المصران المُجفَّف) في شكل حزم صغيرة، تبلغ قيمة الحزمة (5) جنيهات، تحدثت معنا بكل أريحية، فقالت إنها تعمل في هذا المجال منذ سنوات، وإنّ هذا المصران لأبقار، حيث تقوم بشرائه (ليناً) بقيمة 60 جنيهاً للكيلو، وتقوم بتجفيفه في الشمس لمدة يومين، بعدها تقوم بتوزيعه وحزمه في ربط بواقع (5) جنيهات للربطة.. وأكّدت أنّ فترة صلاحية المصران شهران، وأضافت أنّ المصران المُتواجد بالسوق بقري فقط، وأن مصران الضأن غالي الثمن (ما بنهبشو)، مُعللةً أن السوق هذه الأيام يشهد ركوداً غير طبيعي وأثّر ذلك كثيراً على عملها. (مسكول!!) إدريس الأمين جزار في سوق (ستة) بمنطقة مايو، وجدته حائراً يراقب حركة المواطنين وإقبالهم على شراء المُشكّل وهو أرجل ورقاب وقوانص الدجاج، وعزوفهم عن اللحوم الحمراء، وجّهت له بعض الأسئلة عن أسعار اللحوم وجدت عنده عجالي فقط بسعر 70 جنيهاً للكيلو، ولا يوجد غيره، قائلاً إن لحوم الضأن ليس لها طلب بهذا السوق، وأضاف: (ما بتقوم عديل)، مُشيراً إلى أنّ تركيز المواطن على ما يُعرف ب (المسكول) وهو نصف ربع الكيلو، وأن (المسكول) هو سيد الموقف وهو الأقرب للمُواطنين، وأردف ساخراً إنّ (المسكول) في لحم العجالي فقط، وإنّ لحم الضأن لا يحتمل (المسكول)، إلاّ (مُكالمة عديل)، وختم حديثه قائلاً: إنّ لحم الضأن غالٍ، واستشهد بالمثل الذي يقول: (الغالي متروكٌ)، وإن مواطن المنطقة اعتزل اللحوم وركّز على شراء القوانص بقيمة 20 جنيهاً تطعم الأسرة بأكملها. سوق بروس: في سوق بروس وجدنا حتى تُجّار السوق من ذوي الدخل المحدود، حيث يصيح أحدهم (الدولار نزل) في إشارةً إلى رخص البضائع ووسيلة جذب للمارة، فالبضائع زهيدة الأسعار تكاد تصل حَدّ الإدهاش، فمن ضمن المأكولات التي تُعرض في العراء تُوضع على صواني الألمونيوم هو رأس الدجاج بسعر (50) قرشاً، وسعر الدستة هو (6) جنيهات، وأيضاً تُعرض فضلات أطعمة المُناسبات من فراخ بالأكوام، حيث يبلغ سعر كوم الفراخ المُحمّر (20) جنيهاً، ويبلغ سعر كوم اللحمة المُحَمّرَة (5) جنيهات، أمّا الطحنية، فطريقة عرضها خارج عن المألوف، فيقوم البائع بتفريغ كل العُبوة بالجردل في (صينية كاشفة) فيقوم بتقسيم جُزءٍ منها في أكياس بقيمة رمزية، والمُتبقي كوسيلة عرض لجذب الشاري، ودليل على جودة المُنتج. جراد مُحمَّر!! مريم أبكر مُواطنة التقيتها عند الجزارة، فقالت لي إنّها تأتي إلى الجزارة لشراء لحم العَجّالي، وحتى اللحم العجالي يقلّص للمسكول، وقالت إن لحم الضأن يدخل بيتي مع خروف الأضحية فقط، وباقي أيام السنة بنمشِّيها بالمسكولات وهي نصف الأرباع. أما أبكر فقال ل(السوداني)، إنّه يفتقد الجراد المُحمّر، وإنّ الجراد دائماً يمثل ندرة في هذا الشهر، ويرد إلى السوق عند حُلُول فصل الشتاء، وقال إنّ الجراد يُعتبر جوكراً في السوق لأنّ البعض يعتبره علاجاً للكثير من الأمراض، لأنّه يعتمد في غذائه على أوراق الأشجار، ويُعتبر أساسياً في (سُفرة) مواطن المنطقة مثل السَّلطة عند الجلابة، وفي بعض الأحيان يحل الجراد مكان التسالي، ويُباع بالكَيلة وربع الملوة بأسعارٍ زهيدةٍ في مقدور الجميع. ضابط الصحة بعد أن انتهيت من جولتي بالسوق، اتّجهت صوب مكتب الصحة على بُعد أمتار من سوق (ستة)، وفيه التقيت بضابط الصحة سلمى عمر، حيث تحدثت عن حال السوق وكيفية العمل به فقالت: إن جميع التجار بالسوق لديهم كروت صحية بلغ عددها 871 كرتاً صحياً، وإنّهم يعملون وفق شُروط وزارة الصحة، وإنّ صميم عملهم هو رقابة الأطعمة وصحة البيئة، وإنّ حال السوق تعكس حال الناس وبساطتهم، قائلةً: (هنا الناس عايشة على بساطتها وسجيتها) وتختلف طريقة التعامل معهم عكس أسواق المُدن لأنّ في منطقة مايو المُواطنين والتجار المدخل إليهم عن طريق اللجان الشعبية، والعُمد، والسلاطين، فينصاع التاجر والمُواطن لهذه الفئات، ويقوم بتنفيذ كل أوامرهم، وإن السوق عبارة عن أحزاب كل فئة تنفصل عن الأخرى يقودها شخصٌ تُنفّذ أوامره، وأضافت أنّ العربات التي تحمل القوانص، والأرجل ورأس الدجاج بالأطنان وتصل إلى 30 طناً يومياً، وأن هذا السوق يرتاده في الفترة المسائية أعدادٌ مهولةٌ من الأجانب، ويَعمل طوال ال 24 ساعة دُون تَوقُّفٍ. (الله كتلا) ومضت سلمى بقولها: إن المُخالفات بالسوق دائماً تكون في الفترة المسائية، التي تتمثل في دخول دفارات الدجاج النافق المعروف ب(الله كتلا)، لأنّ فترة عملهم تنتهي عند الساعة الثالثة مساءً، وأضافت أنّها قبل أسبوع قامت بإبادة دفارين مُحمّليْن بما يُعرف ب (الله كتلا)، دخلا السوق ليلاً وتم القبض عليهما من قبل الشرطة، مُحذِّرة من صُعوبة الوضع بالسوق، وحجم المُعاناة التي تقع على عاتقهم.