عرفته ابان عملي بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم ولسنوات خلت، يدخل اليك في ادب وهدوء تتقدمه كلمة يا "استاذ" يحييك بذوق ينم عن أن الرجل يستوعب ادب التخاطب لاسيما عندما يكون من سبقه بالمكتب فتراه ينتظر في اناة وصبر ودون تململ، وغالبا ما يفتح حقيبته التي لا تفارقه ويسحب مطبوعا من جوفها مجلة أو كتابا يقتل به الزمن إن طال أو قصر، انه الاستاذ المبتلى بأمر الثقافة على وجه العموم والسودانية منها على وجه الخصوص، وهو مجال دراسته وتخصصه حين هاجر إلى الخارج للعلم والتحصيل وقد نجح خلاله في التعريف بالثقافة ذلك الكل المركب الذي يشتمل على نشاطات المجتمع من عادات وتقاليد ومعتقدات وفنون وممارسات ومؤسسات بما في ذلك وسائل كسب العيش. هكذا جاء تعريف الدكتور محمد جلال هاشم للثقافة، أحمد عبد المكرم يحلو لي الحديث معه في مجاله الذي احبه وكثيرا ما تجده يحمل ذخيرة طيبة من المعلومات التي يختزنها من خلال الكتب التي يعمل على امتلاكها أو تلك التي تذخر بها ارفف المكتبات التي يرتادها من حين لآخر، عرفته عبر اطلالته عبر الصحف السيارة أو المجلات السودانية حيث يمتعك بنقده الهادي وبيانه الواضح نحو الاقصوصة أو المسرحية التي تتسيد الساحة، يميل إلى معاودة الحكائين والرواة في سعيه للوصول "لاصل الحكاية"، يأتيني عادة ليطلب الفرصة لاستخدام "القاعة" وكان لا يسعى لعمل أو يتحمس له الا ماهو مرتبط بأمر الثقافة والمثقفين، يطلب بأدب جم ويتقبل ما نوجهه به برحابة صدر بالرغم أن التوجيه قد يدخل احيانا في مجال السخف، وهو ليس بيدنا في معظم الاحوال، لا يميل إلى الاستنكار أو المغالطة، يغادرنا في هدوئه المحبب ليأتي ثانية بما هو مطلوب ويتابع تحديد ميعاد ندوته أو سمناره الذي اختطه لذلك اليوم. انه الاستاذ أحمد عبد المكرم الذي عرفت، فدارت دورة الايام وقدر لي أن اغادر المكان لأفسحه لغيري، وبعد أن تبوأت موضعا آخر وبه فسحة من الوقت قررت أن امضيه بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان حيث اجد متعة التجول بين مطبوعاته العديدة القيمة اضافة إلى خاصية اخرى التمستها عبر زياراتي غير المنتظمة حيث وجدته دوحة يرتادها الادباء واهل التثاقف يمضون جل وقتهم في حوارات وفي غير إعداد، حوارات في شأن الوطن من نواحيه المختلفة، وقد يتركز الحوار الهادي حول عنوان جديد اطل من مطابع المركز فيدور حوله الحديث ولا اقول النقد يتجول البعض بين صفحاته منهم من يرى أن المنهجية التي اتبعها المؤلف مناسبة بينما يرى آخرون أن الاسلوب يعتريه بعض ضعف أو تجاوز في المفردات غريب، على العموم هذه اجواء المركز يوميا، وخلال جلسة لم ننظم لها كانت تضم الفقيد العزيز والدكتور الهمام كمال عثمان صالح جال بنا الخاطر نحو المكتبة القبطية بالخرطوم وتاريخ تأسيسها وكيفية تكوينها قبل ما يربو على المئة عام، وبينما كنت اتحدث عن تلك المؤسسة الثقافية العريقة فاجأني عبد المكرم انه كان من سعداء الحظ الذين تمكنوا من الوقوف على مخزون الكتب والوثائق القيمة التي تحفظ بالمكتبة القبطية، واسترسلنا في الحديث حتى قدمت اقتراحي للجالسين وهو بينهم أن نسعى لإحياء تلك الذكرى خلال عمل مشترك يتبناه المركز بالتعاون مع ادارة المكتبة وهنا لمست حماسا يتطاول عند الرجل وللتو طلب تحديد ميعاد مناسب للجلوس مع ادارة المكتبة ليأخذ الاقتراح حظه في التنفيذ، هذا وقد سعيت إلى ذلك بحماس ايضا الا أن امر صيانة المكتبة قد اعاق التاريخ الذي تم تحديده مسبقا، وكان حماس الاستاذ أحمد لذلك لم ينقطع فكان يسألني عن الامر كلما جمعت بيننا الظروف، حقا كم كنت عظيما يا أحمد. غاب عني وغبت عنه ولفترة طويله لم اره ورغم سؤالي عنه وباستمرار عبر زملاء له ومن الذين ابتلاهم الرب بأمر الثقافة يرتادون سوحها ويتفقدون افرادها وهم جماعة الفوا بعضهم بعضا، الا انني سعدت حين اجتمعنا حول مائدة بالمركز تلبية لدعوة اللجنة الثقافية للتفاكر حول امر يخص برامج المعهد، شاهدته في حماسه المعتاد يناقش ويطرح الاقتراح الجيد الا انني لاحظت عليه بوادر ضعف ملحوظ وظننت في حينه انها مضاعفات مرض السكر الذي يعاني منه، لم ابح له بما جال بالخاطر ظنا مني أن ذلك السؤال ربما اصابه بشيء من الغم وهي عادة،"الضعفاء" ولم يكن هو بينهم، انتهى الاجتماع إلى ما انتهى عليه من اتفاق واختلاف في الرأي وهذا من شيمة الاجتماعات، هذا وقد اجابني على استفسار مؤداه أن البعض يستبد بهم وتأسرهم العاطفة فيصبحوا اسرى لمؤلف بعينه أو اديب بذاته، كانت اجابته كفيلة بإقناعي ، فشكرته على تلك المعلومات التي لم تكن بالخاطر وقتئذ، يسعدك الرجل عند مشاركته بالمداخلة الجيدة الجادة، يأتيك بالمعلومة من قراءاته للادب السوداني والعالمي على حد سواء فهو جدير بأن يطلق عليه المثقف الشامل. إن سيرة الفقيد أحمد عبد المكرم تأتي ودون شك كلما اجتمعت ثلة من المثقفين واهل الادب، وانا خارج البلاد للمشاركة في امر متعلق بالوطن جمع العديد من المثقفين جاءت سيرة الرجل واهتمامه وتعلقه بأمر الثقافة إلى أن علمت من الدكتور وجدي كامل استاذ الاعلام بجامعة الخرطوم سابقا والعامل بقناة الجزيرة حاليا وصديق الطرفين، بأن أحمد يعاني كثيرا من ذلك الداء اللعين واوصاني بزيارته ووعدته بذلك فور وصولي السودان وبالفعل نويت ذلك، استفسرت عن موقعه آنذاك فعلمت انه يتلقى بعض جلسات غسيل الكلى، هذا وقد شاركت في اجتماع لعدد من اعيان المركز للتشاور حول الوقوف بجانب الاستاذ عبد المكرم في محنته فاتفق الجميع على امر "مشهود" في المجتمع السوداني، ومجتمع اهل الثقافة على وجه الخصوص وكان من المؤمل أن يقوم بعض اعضاء الاجتماع بزيارته الا أن المنية عاجلته فبكاه الجميع مرددين أن الامر امر رب العباد الذي بيده كل الاشياء وما اراده الله فعل، فليرحمك الله ويتقبلك القبول الحسن اخي أحمد. وإلى لقاء