** قبل توزيع العنابر وفصلها عن غرف العمليات، كان المشهد لطيفاً بالمستشفى الريفي.. فالرجال يأتون بزوجاتهم للتوليد، ثم يتخذون مكاناً غير بعيد للشاي والقهوة والأنس لحين اكتمال العملية بواسطة القابلة الماهرة.. ثم يسمعون صرخة مخاض، فيهرولون جميعاً إلى الجدار الجنوبي لغرفة العمليات ويمدون رؤوسهم عبر النافذة ويسألون كادر التمريض بصوت واحد : (دي مرتي ؟)، فيجيب كادر التمريض (لا، دي مرة عبد السيد)، فيعيدون رؤوسهم من الغرفة ويحمدون الله ثم يعودون - بمنتهى اللامبالاة - إلى مكان أنسهم تاركين خلفهم عبد السيد وحده حزيناً متوجساً يتكئ على جدار غرفة العمليات ..!! ** كل قضية بالسودان، في آذان ووجدان ساسة السودان، كما صرخة مخاض زوجة عبد السيد..على سبيل المثال الراهن، قضية حلايب المثارة حالياً.. آثارها موسى محمد أحمد، مساعد رئيس الجمهورية، في حضرة الرئيس مرسي..لماذا موسى هو من أثار هذه القضية سائلاً الرئيس مرسي عن مصير حلايب، وليس نافع أو حاج آدم أو الزبير أحمد الحسن أو غيرهم من سادة الحزب والحكومة الذين التقاهم الرئيس مرسي في تلك الزيارة؟..كل هؤلاء - وغيرهم كثر - صمتوا عن الحديث في قضية حلايب في حضرة الرئيس مرسي، رغم أن حلايب مدينة سودانية وقضيتها قضية قومية..ما عدا موسى محمد أحمد، إذ تحمل عناء السؤال وهجوم الصحافة المصرية وحرج الحكومة السودانية.. لماذا؟.. لقد أجاب موسى على السؤال تلميحاً حين قال بالنص : (قضية حلايب يجب أن تكون قومية).. !! ** وهي كذلك، أي هي قضية قومية ويجب أن يتداعى لألمها وتوهان سكانها النهج الحاكم بالسهر والحمى، ولكن للأسف طرائق تفكير النهج الحاكم كما لامبالاة نهج أولئك الرجال الذين أعادوا رؤوسهم من تلك الغرفة ثم عادوا إلى مجلس أنسهم بعد أن تركوا عبد السيد وحده يتكئ حزيناً ومتوجساً على جدار الغرفة..ليس من ملامح القومية أن يتحمل موسى محمد أحمد وحده عناء الحديث عن حلايب، و ليس من الحنكة السياسية - ولا الحكمة - إشعار مصر وكل بلاد الدنيا والعالمين بأن قضية حلايب محض قضية بجاوية وللبجا ناطق رسمي برئاسة الجمهورية..صحف مصر، الموالية منها والمعارضة، منذ زيارة مرسي و إلى يومنا هذا، تسبق اسم موسى محمد أحمد بلقب (زعيم البجا)، حين ترفض حديثه المطالب بإعادة حلايب إلى السودان..!! ** وعليه، نسأل : من المسؤول عن هذا الاختزال المخل بحيث يصبح حديث رجل دولة في صحف دولة أخرى حديث (زعيم قبيلة)؟..ومن المسؤول عن تقزيم قضية حلايب في ذهن الرأي العام - المصري وغيره - بحيث لم يعد يتحدث عنها إلا من تصفه الصحف المصرية ب (زعيم البجا).؟.. بل، من المسؤول عن إحساس موسى محمد أحمد ذاته بأن قضية حلايب لم تعد قضية قومية و(يجب أن تكون قومية)، أو كما قال حين شعر بأنه يتكئ وحيداً - حزيناً ومتوجساً - على جدار القضية؟..حلايب سودانية، أوهكذا تهمس قيادة حكومة السودان للصحف، وهمسهم صحيح، ولكن الجهر - بما يهمسون به - في حضرة قيادة حكومة مصر يجب أن يكون سودانياً أيضاً، وليس بجاوياً فحسب.. !! ** فليكن الحزب الحاكم بمصر إسلامياً متحالفاً مع الحزب الحاكم بالسودان، بل فليكن فرعاً متفرعاً من الحزب الحاكم بالسودان، فهذا أو ذاك لايهم أهل السودان كثيراً حين يكون الحديث عن (أرض محتلة)..اطرقوا على قضية حلايب بالمطرقة القومية بلاحياء وبلا (دبلوماسية خجولة)..ولو غضبت حكومة مصر وصحافتها، فلتغضب..وأن يكون غضبهم على شعب وبلد خير- لقضية حلايب - من أن يختزلوا غضبهم في (موسى محمد أحمد) ..!!