د. عبدالمطلب صديق لم تدهشني الأخبار التي سودت صفحات الصحف وتلك التي سارت بها الأسافير، حول العصابة الخطيرة التي اتخذت من مكتب والي ولاية الخرطوم الدكتور عبدالرحمن الخضر مقرا لها، واتخذت خاتمه وأدوات مكتبه الرسمية وسيلة لتمرير تلك الجرائم وجني المليارات من الجنيهات السودانية بغير وجه حق. لم أتعجب لتلك الجريمة لأنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وذلك طبع البشر وتلك جرائمهم، لكن ما أدهشني بحق وحقيقة هو ضعف المعالجة الإدارية والقانونية لتلك المأساة الكارثية. والمعالجة التي أقصدها لا أعني بها الدغمسة ولا الغتغتة ولا المجاملة أو المداهنة. كيف تقع هذه الجريمة وتعالج بهذه الصورة البدائية التي أدت إلى زيادة غضب الشارع وعمقت من هوة ضعف الثقة القائمة بين الحاكم والمحكوم. أين جيوش الخبراء القانونيين والإعلاميين والإداريين الذين تعج بهم دواوين الحكومة في مواجهة مثل هذه الأزمات؟، وكيف سقطوا هذه السقطة الشنيعة وهم يتعاملون معها كأنها أزمة عابرة، متجاهلين حجم خطورتها التي ربما كانت قد تؤدي إلى إسقاط الحكومة بكاملها كنتيجة حتمية لذلك التخبط الإعلامي والقانوني والإداري في معالجة تداعياتها. السودانيون بوجه عام سواء كانوا حاكمين أو محكومين، خبراتهم ضعيفة في الفساد والإفساد، وحيلتهم محدودة في تغطية جرائم الاعتداء على المال العام، ولعل الجرائم المعلنة في الاعتداء على المال العام تدل على ذلك، وجريمة موظفي مكتب الوالي، هي جريمة مركبة بكل المقاييس لكني لن أتحدث عن جانبها المالي كجريمة بائنة، فقد كفاني المئات ممن كتبوا في هذا الموضوع أن أعمل مداد قلمي فيها، غير أني وجدت نفسي منزعجا من الضعف الإداري والقانوني والإعلامي للعاملين بمكتب الوالي نفسه من مرتكبي الجريمة ومن شايعهم ومن عمل معهم أيضا. وما أريد قوله هنا، يمثل نصائح استشارية غالية للمفسدين ومن في نيته السرقة والإفساد، فمن حق هؤلاء ارتكاب الجريمة ولكن ليس من حقهم الإساءة إلى الآخرين وإخراجهم بمظهر الغافل وغير المحترف ومن بين هؤلاء قانونيون وإداريون ورقابيون وإعلاميون بولاية الخرطوم نفسها. أين المستشار القانوني لولاية الخرطوم وما هو دوره في معالجة هذه القضية لحظة انكشافها؟ هل ظن أن إخطار النيابة العامة هو نهاية المطاف؟ ألم يفكر في الصورة الذهنية التي سوف تتكون عن والي الخرطوم وهو يؤوي هذه الثلة من اللصوص الأغبياء؟ ألم يكن بوسعهم نقل هؤلاء المحتالين إلى سلخانة أم درمان أو إدارة النفايات بالولاية ثم يتم القبض عليهم من هناك بدلاً من القبض عليهم وهم ينتسبون إلى مكتب الوالي نفسه؟ ألم يسمع هؤلاء بالجريمة الأخلاقية التي ارتكبها الرئيس الإسرائيلي عزرا وايزمان بمكتبه وهو رئيس للدولة، فترك حرا طليقا حتى انتهت ولايته فتم القبض عليه ليس لسواد عينيه ولكن حتى لا تتلوث سمعة مكتب رئيس إسرائيل كلها؟. أسوق هذا المثال وأرجو ألا يلومني أحد على هذا الكلام باعتباره تغطية ومواراة لسوءة هؤلاء الموظفين، لأني قلت من البداية بأني أنوي تقديم خدمات استشارية إعلامية مجانية للمفسدين، وليس في ذلك عيب، وحالي كحال المحامي الذي يدافع عن اللصوص والمجرمين والقتلة من كل شاكلة ولون؟. وتمتد نصيحتي الاستشارية إلى الخبراء الإعلاميين والمستشارين ومسؤولي الإعلام بولاية الخرطوم. وأقول لهم: ألم تنصحوا الوالي بكيفية إدارة هذه الحملة الإعلامية بمنطق المبادرة وليس انتظار ردة الفعل وهذا ما حدث؟، وكانت نتيجته أن الولاية بكاملها لم يكن لها صوت في قضية الاختلاسات، وكان الصوت لعامة الناس في مجالسهم وللإعلاميين في قنواتهم وصحفهم والولاية في سبات عميق. ونصيحة أخرى إلى المستشارين القانونيين الذين تركوا حيثيات الحكم بالإفراج عن المتهمين بالتحلل، ولم يفتح الله لهم بالبصيرة النافذة التي تشير إلى أن هذا الحكم سيرتد عليهم في غضون ساعات ويحيل القضية إلى مادة دسمة للساخرين ليس من سلطة القانون بل حتى من سلطة الشرع والدين نفسها وهي التي باسمها تم الاحتكام إلى شرعية الإفراج عن المتهمين. عصابة الاحتيال بمكتب الوالي أساءت إلى عموم الموظفين وإلى المستشاريين بصفاتهم الإدارية والقانونية والإعلامية قبل الإساءة إلى الوالي الذي ائتمنهم. ونصيحة أخرى إلى بقية الولاة، بعدم الركون إلى الثقة العمياء في الناس، ولا بد من تطبيق نظام الرقابة بالاستثناء ولن يضير الوالي شيئاً لو أنه أكمل ظهيرة يومه في وزارة الإسكان ليراجع كل التصديقات التي منحها، وحينها سيدرك ما يدور دون عناء. كان صديقنا الراحل يحدثنا عن الأيام التي قضاها موظفا بمكتب محافظ الخرطوم مهدي مصطفى الهادي خلال أيام حكم النميري، ووردت إلى مكتب المحافظ ذات يوم الميزانية العامة لإحدى المؤسسات التابعة للمحافظة وحوت تلك الموازنة مبلغا ماليا خصص لتمويل رحلة علاجية لأحد كبار الموظفين، فما كان من الراحل الكاهن إلا أن طلب من المسؤول البحث عن بند آخر لهذه المصروفات حماية لسمعة جميع المسؤولين لأن الموازنة وضعت لتعلن على الملأ من الناس، ولنا أن نقارن بين موظف حريص على سمعة رؤسائه بأكثر من حرصهم هم أنفسهم وموظفي هذا الزمان ممن لا يرف لهم جفن وهم يسرقون المال العام ويتسببون في هلاك المسؤول نفسه. يقيني أن الدكتور عبد الرحمن الخضر لا يستحق ما حدث له، لكنه دفع ثمن الإدارة الأهلية القائمة على الرضا النفسي عن الاتباع دون الاهتمام بالمؤسسية وإجراءات الرقابة والإدارة وأساليب التصديقات الرسمية وما يتبعها من إجراءات التحقق والتثبت والمراجعة. تعاني الحكومة اليوم من تفشي هذه الظواهر الاجتماعية السالبة التي أوشكت أن تجعل مشروع التوجه الحضاري مجرد مزحة ثقيلة الدم ومادة للسخرية والتهكم حتى من عتاة المجرمين والمفسدين. السوداني بطبعه مفسد من الدرجة الثالثة تنقصه المهارات الابتدائية الأساسية في الانتماء إلى مهنة المحتالين والنصابين والقادرين على سرقة المال العام والنجاة من العقاب بتدبير الخروج الآمن قبل الدخول في المأزق، ويكفي أن عدداً من مديري الشرطة السودانية يفتخرون بأنهم لم يطووا سجل أي قضية جنائية دون الوصول إلى الفاعل وهذا وحده دليل على قلة حيلة اللصوص عندنا، وسهولة السيطرة على ممارسات الفساد التي سار بها الركبان هذه الأيام، ولكن من الضروي إصلاح حال الخدمة المدنية قبل الشروع في محاربة الفساد، لأن الموظف غير المؤهل هو بذرة فساد دائمة وخلية نائمة. وفي اعتقادي أن عدو الإنقاذ ليس الختمي ولا الشيوعي ولا الاتحادي ولا حتى الأمة والجبهة الثورية والعلماني. عدو الإنقاذ موظف غير مؤهل يعتقد أنه من بيت الحكم وعندما يرتكب جريمته يسيء إلى الدولة التي عينته والحاكم الذي ائتمنه، قبل أن يسيء إلى الآخرين.