درس في التربية الوطنية بعض المثقفين يفهمون (النهضة) على أنها تجاوز كامل وتام للماضي وفي المقابل إسراع الخطى بقدر الإمكان نحو المحطات المتقدمة بحجة اللحاق بالشعوب والأمم التي سبقتنا، هذا الحكم في تقديري قاسٍ جداً وغير موضوعي، وقد نتفق مع هذا الحكم في شقه الأول الخاص بأننا يجب أن نكون متطلعين وطموحين وذلك بتغيير نمط تفكيرنا الموصوف بالبطء والرتابة والمحاط ببعض التقاليد والعادات التي بلا شك تضع الكثير من العراقيل أمام إنطلاقنا للأمام ونؤمن أيما إيمان بضرورة المواكبة مع ما يحدث في العالم من حولنا وذلك بتسهيل التواصل مع المجتمعات من حولنا بتحرير العقول للإبداع والابتكار، إلا أنني اختلف مع الشق الآخر من الفكرة الذي يقول بتجاوز الماضي بكلياته وبما فيه من إشراقات وتجارب ترسخت مع السنوات باعتبار أن النهضة لا تستحدث من عدم بل هي حلقات متواصلة من التجارب الإنسانية، والفارق بيننا وبين هذه الشعوب الناهضة هو أن هذه الشعوب تجيد التعامل مع الماضي بجدية وذلك بدراسته والاستفادة من ما فيه من إشراقات، والمؤسف أننا لا نوثق تجاربنا ولا نأخذ منها العبر والدروس وتظل هذه التجارب مبعثرة وشفاهية يصعب الرجوع اليها في الوقت المناسب ومن هنا فإننا نجرب المجرب . هذه الخواطر أثارها عندي البروفيسور عبد المحسن بدوي في برنامجه الناجح ( ذاكره الشرطة ) بإذاعة ساهرون عندما طلب مني إبداء الرأي في الموضوع الحيوي الخاص بالتربية الوطنية وكان يستضيف في تلك الحلقة سعادة الفريق شرطة / محمد حسن إدريس، ولعل البروف محسن يهدف من خلال برنامجه الى تنشيط ذاكرة رموز الشرطة وربطها بالراهن من أجيال الشرطة وأحداثها وهو عمل مطلوب بشدة لربط أجيال الشرطة مع بعضها البعض ونقل تجارب هؤلاء الرموز للشباب الجدد من ضباط الشرطة . وعودا لموضوع الحلقة في ذلك الصباح 6/11/2014م عن التربية الوطنية ولان الشيء بالشيء يذكر نرى أن التربية الوطنية تعني في بعض جوانبها توثيق إشراقات الماضي بالذات تلك التي تصب في خانة البناء الوطني بشقه المادي والمعنوي والإخلاقي وهنا تحضرني حكاية تخدم هذا الجانب المعنوي والأخلاقي . من المرويات التي تسعد الفؤاد وتثري العاطفة والوجدان وتشحذ الهمة وتستدعي ماضي السودان الأنيق ما نقله لي صديقي الأستاذ أحمد طه أن موظفا بريطانيا تم نقله للسودان من إحدى المستعمرات البريطانية، وصل الموظف عن طريق ميناء سواكن وبمجرد خروجه من الميناء طلب من احد المواطنين - طلب منه بالإشارة أن ينحني له ليركب على ظهره ويوصله الى المكان الذي يقصده، فما كان من المواطن الا وأن غرس خنجره في بطن الخواجة وأرداه قتيلا في الحال، وانتشر الخبر وعم القرى والحضر ليصدر رئيس بريطانيا آنذاك منشورا لمنسوبيه في السودان بضرورة توخي الحيطة والحذر في التعامل مع السودانيين وتبصير الموظفين الذين يأتون من مستعمرات أخرى أن ثقافة السودانيين وتربيتهم مختلفة وأنهم قوم معتدون بكرامتهم وعزتهم. مع إقراري وتسليمي بأن هذه الرواية شفاهية ولا تتكئ على مرجعية علمية واضحة اللهم إلا بالرجوع لمدونة السودان القديمة أو بعض ما كتبه الإداريون الإنجليز ابّان تواجدهم في السودان، إلا أننى ميّال لتصديقها والإطمئنان اليها خاصة إذا اطلعنا عليها في سياقها التاريخي والجغرافي والمناخ العام الذي كان يسود في السودان آنذاك وهو في تقديري الوعي المبكر بفظاعة الاستعمار . . محمد علي عبد الجابر