محمد عثمان ابراهيم شاب حدث السن، جئت إلى اجتماعات التجمع الوطني الديمقراطي (المندحر) في أسمرا في النصف الثاني من عقد التسعينات الماضي. كتبت عن هذا مرة واستعرت لغة الشاعر المصري العظيم حسن طلب إذ قلت إن عملي إذ ذاك مع القوى المصطفة لإسقاط نظام الإنقاذ بالقوة العسكرية كان بمثابة الدخول إلى عصر الزلط ، حيث ثلة من الرجال الأزلطيين، والنساء الأزالطة، وكان بمثابة الدخول كذلك إلى عصر الزبرجد حيث قلة من النساء الزبرجديات، والرجال الزبارجة! من بين هؤلاء الرجال الزبارجة كان عمي فاروق! الأستاذ فاروق أبوعيسى. منذ حضور الاجتماع الأول المشترك لهيئة القيادة والمكتب التنفيذي للتجمع الوطني والذي انعقد بمقر السفارة السودانية ثم انتقل إلى قاعة في ضاحية سمبل، زال انبهاري بالأسماء الكبيرة ومددت كما أبي حنيفة النعمان قدمي. أسأل الله الشبه بالإمام النعمان والتشبه بالرجال فلاح. كان القوم يتحدثون، أغلبهم للدقة، بكلام غير مفيد البتة حتى لا أقول كلاماً فارغاً. يخرج كل واحد منهم قصاصات من الصحف من حقيبته ثم يبدأ نوبته في الهتاف عن الجماهير، والشعب، والمعاناة، و(كوادرنا) في الداخل، وضرورة إسقاط النظام! البعض كان يعيد ما قاله في الجلسة السابقة، وفي عرفهم لولا أن الكلام يعاد لنفد، والبعض كان يأخذ الفرصة فيناقش قضية ليست مطروحة على جدول الأعمال. خارج القاعة كان البشر حكاية أخرى يجمع بينهم جميعاً الملل، والتأفف، والنميمة، والنكات السرية المرحة! السودانيون، عموماً، أهل حديث سري مليح فما بالك وهؤلاء ساسة مخضرمون ولديهم حكايات! فاروق أبوعيسى كان غيرهم تماماً. كان حريصاً جداً على وقته وكان في الغالب يحضر الاجتماعات ثم يغادر قبل أن يبدأ القوم في التكرار ولكن بعد أن يقول كلمته ناصعة بينة. تحدثت مرة أو مرتين فانتبه إلى الرجل وعاملني بحنو واحترام. ذات مرة كنت أقف أمامه بمظهري الشاب الريفي وملابسي البسيطة وأقول له أثناء الحوار الودود : يا استاذ فاروق.. يا استاذ فاروق فقاطعني بمودة: أنت يا محمد شنو شابكني يا أستاذ يا أستاذ.. أنت ياخ زي كمال وعماد وأنا عمك.. هكذا غيرت مخاطبتي إلى عمي فاروق وقد أولى هو هذه الصلة حقها من الرعاية. حين سئمت العمل في التجمع في أسمرا، أبلغته في مكتبه بالقاهرة فقال لي "والله خسارة يا محمد شاب تقدمي زيك يصاب بالملل.. فعلاً العمل المعارض بطيء.. فكر في الأمر وإن قررت الإقامة في القاهرة، اتصل بي وسأدبر لك عملاً يفي بحاجتك". بالفعل لم يقصر وأبلغ اثنين من رجال الأعمال الأفاضل لتوظيفي وقد اتصلت بأحدهما واستقبلني بمودة عامرة هو كذلك. الحقيقة أنني لم آخذ أياً من عرضي رجلي الأعمال وقد يسر الله أمري لكن أحفظ الفضل والنية في بذل الفضل للعم فاروق أدام الله عليه نعمة الصحة. أعطى الأستاذ فاروق لوطنه وشعبه وأهله فما استبقى شيئاً وفاض عطاؤه على الأمة كلها فكان الحقوقي الأول في العالم العربي لسنوات عديدة أميناً عاماً ناجحاً وكبيراً للاتحاد العام للمحامين العرب! خدم الأستاذ فاروق هذا الوطن معارضاً وفارساً مقداماً ووزيراً وناشطاً قومياً. خلال سنوات من المتابعة المهتمة بعطاء الرجل، أشهد أنه ظل دائماً شرساً وصادقاً وواضحاً وصريحاً! إذاً ما الذي قاد الرجل الكبير إلى التوقيع على ميثاق صغير؟ صحيح أن لغة (الجبهة الثورية) قد تطورت ولم تعد تلك اللغة التي كتب بها ميثاق (الفجر الجديد) والتي انتقدها الكاتب المعارض الحاج وراق! بفضل (الطرابندو) الذين انضموا للحركة المتمردة في أديس أبابا، صارت الجبهة الثورية تقرأ وتكتب. من موقع محبة صادقة واحترام كبير ومعرفة بالفضل، أقول أن مكان فاروق أبوعيسى ليس مع أولئك. مكان أبوعيسى هنا في الخرطوم مستودع للحكمة لا ينضب، وعقل للأمة لا يعرف الخور، وأحد كبار هذا الشعب حكاماً ومعارضة. بوسعنا كجماهير أن نقول لفاروق أبوعيسى: نحن نريدك هنا حكماً بين حكامنا ومعارضينا حين تغيب السلطة بصيرتهم.. نريدك هنا ناصحاً للجميع وكبيراً لأهل السودان كعشيرة واحدة وليس خصماً لأي منها. نريدك الكبير عند الحاجة كقائد السبسي الذي صار اليوم تميمة التونسيين! يا ويل لا تجد كبارها عند الحاجة! يا عمي فاروق نريدك لنا جميعاً فلا تكن لأي منا ضد أي منا.