*الروايات الأدبية التأريخية تبقى كالمعادن النفيسة يزيدها الزمن قيمة وألقأ، خاصة الروايات الواقعية التي تغوص في أعماق النفس البشرية في محاولة لكشف أسرارها وخباياها الجميلة وسط ركام التجارب الأليمة القاسية الحزينة. *من هذه الروايات رواية عبقري الرواية الفرنسية فكتور هوجو- الذي نال وهو في الخماسة عشر من عمره جائزة الأكاديمية الفرنسية –في روايته "البؤساء" التي أعدت قراءتها قبل يومين لأكتشف مجدداً المعاني السامية التي عبرت عنها . *الرواية جسدت حياة الفقراء في فرنسا قبل الثورة الفرنسية، من خلال سيرة بطلها جان فالجان الذي قضى حقبة من شبابه في السجن لأنه سرق رغيفاً اضطره الجوع لسرقته، وظل مطارداً طوال حياته، رغم التحول الكبير الذي حدث في شخصيته، بعد أن تحول إلى راهب وهب حياته لفعل الخير وعون الفقراء. *لايمكن تلخيص التفاصيل الدرامية التي مرت بشخوص الرواية،وسط زحمة الأحداث وتقلباتها، لكن لابد من التوقف عند شخصية كوزيت ابنة فانتين التي غرر بها شاب التقته وأحبته لكنه تخلى عنها، ودفعت هي وابنتها ثمناً غالياً من حياتهما في ظروف قاسية ووحشية. *يمكننا القول بأن العناية الإلهية بعثت بطل الرواية فالجان الذي لم يعد يهم اسمه ولا وضعه المتقلب بين الفقر والغنى وبين الاستقرار والملاحقة، بين السجين الهارب والراهب الكريم الذي يدفع بسخاء للمحرومين ويصفح عن الذين يسيئون إليه ويضحي بسعادته في سبيل إسعاد الآخرين، بعثت به ليؤدي دوراً مهماً في حياة فانتين وابنتها كوزيت. *استطاع فالجان تخليص كوزيت وهي مازالت صبية يافعة من براثن المرابي الجشع الذي استغل حاجة أمها لستر حالها ليثري على حسابها فيما كان يسيء معاملة ابنتها أسوأ معاملة، حتى أنقذها فالجان من سجن المرابي الجشع لتبدأ حياتها بعيداً عن العذاب والمذلة. *في مشهد من مشاهد الرواية يظهر فالجان إبان مجريات الثورة الفرنسية وسط الموت والرصاص المنهمرفي كل الاتجاهات ليحمل ماريوس الجريح على كتفه ويجتاز به المسافات الطويلة المحفوفة بالمخاطر إلى أن يصل به إلى منزل جده الثري وهو بين الموت والحياة. *فاتني أن أذكر لكم أنه في غفلة من الأحداث المتسارعة كان قد تم لقاء بين ماريوس الجريح وبين كوزيت، لكنهما افترقا كل في طريق، ومرة أخرى تسخر المشيئة الإلهية فالجان ليكون هو نفسه صلة الوصل بينهما. *بعد أن اطمأن فالجان على صحة ماريوس الذي كان طوال فترة غيبوبته "يهضرب" ب كوزيت التي كما عرفنا قد خلصها فالجان من المرابي الجشع وتبناها بكل حنان الأب الكبير، لذلك ما أن اكتملت صحة ماريوس إلا وأسرع فالجان بتحقيق حلم ماريوس برؤية كوزيت، وساعدهما على إكمال زواجهما. *تفاصيل رواية البؤساء مشحونة بالمواقف والأحداث،أكثرها درامية عندما اعترف قالجان لماريوس بأنه سجين هارب، وأن كوزيت ليست ابنته، دون أن يخبره بأنه هو من أنقذها كما أنقذ حياته وحمله على كتفه وسط المخاطر والأهوال إلى أن أوصله منزل جده. *عندما يكتشفان - ماريوس وكوزيت - الحقيقة يكون فالجان قد بدأ لحظة الرحيل من هذه الفانية، وكان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرى "ابنته" كوزيت قبل أن يودع الدنيا، وكانت كوزيت قد جاءت وجلست بالقرب من ركبتيه وإلى جوارها زوجها ماريوس، ليتم إسدال الستار على حياة فالجان الغنية بالمواقف التي انتصر فيها الحق والخير والحب على الظلم والشر والكراهية .