رأيت أن أواصل جهدي المتواضع في التوثيق لحينا العتيق وأعلامه ، فتمكنت من الايفاء لطموحي بعدد لا بأس به ممن اسعفتني بهم الذاكرة أو من خلال مقابلات بعضهم أو من روايات الحكائيين من المعمرين ، ومن اعلام الحي اخترت هذه المرة ذلكم العالم الاكاديمي والاداري الفذ الدكتور جعفر محمد علي بخيت سليل اسرة (حبة) التي تسكن الحي منذ ازمان بعيدة ، تتميز بحسن السيرة والسريرة وحسن الجوار ، اسرة تشارك اهل الحي السراء والضراء لا فرق عندهم بين المسلم والمسيحي فالجوار هو اس العلاقة الاجتماعية بين اهل الحي ، منزلهم يجاور منزل المرحوم عبد السيد فرح وخليل عبد الملك ويقع على شارع نجيب كباشي ذائع الصيت وعلي مقربة من سوق امدرمان الكبير ، فالرجل معروف على مستوي السودان باحثا عن سودان جديد تظلله المساواة والعدل دون تلك الطائفية التي تترك ظلالها السالبة على المجتمعات فرقةً وبغضاء وتناحرا وتنابذا ، للرجل نهجه الخاص ومدرسته المتفردة ، من الناس من يتفق معه ومنهم من يختلف ، الا ان الجميع متفقون على وصفه بالنزاهة والشرف ، عصامي في حياته لم يسع للحياة الدنيا بامتلاك الاراضي والفلات كنهج الكثير من الساسة واهل النفوذ عندما يتبوأون الوظائف التنفيذية العليا ، استغلالا للوظيفة لاغراض التملك لا سيما الذين يعملون في وظائف تمكنهم من ذلك كالاراضي والاسكان وخلافه ، لم يطمح ولم يطمع الرجل في الاستيلاء على اراضي الدولة حتي ولو بثمن بخس ، فاختار لاسرته منزلا متواضعا كحال اهل الطبقة الوسطي قبل ان يرتحل الى منازل الحكومة التي تمنح لكبار رجالات الدولة وفقا لموقعه الرسمي وحتى بعد وفاته بوقت قصير حيث انتقلت الى منزلها الذي كان يعوزه التشطيب . جعفر بخيت كان من المحبين للقراءة ونهم الاطلاع تخرج في جامعة الخرطوم ثم التحق بالسلك الاداري ومن ثم جامعة الخرطوم ثانية في وظيفة ابتعث بعدها الى المملكة المتحدة للدراسات العليا ، اختير للتدريس بالجامعة ، وعند انقلاب مايو تم اختياره ليكون وزيرا للحكومة المحلية ، ويرى البعض ان وجود جعفر بخيت ضمن وزراء مايو زادها حماسا لتصفية الادارة الاهلية ، فافلح مع زملاء له في تحقيق تلك الغاية كما افلح في العبور بالنظام من فوران الثورة الي رزانة الدولة ، وعلى كتفه قامت هياكل التنظيم السياسي ومن بنات افكاره ولدت مؤسسات الحكم الشعبي كافة وقيام الحكم الاقليمي وبجهده والبعض جاء الدستور في تلك الحقبة . لعب جعفر بخيت دورا مهما في تطوير الادارة الاهلية وحياد الخدمة المدنية وابعادها عن التسييس ، فحافظ بذلك على فعاليتها وديمومتها مبرأة من الهوى ، واستنبط نهجا ومدرسة خاصة اقتنع بجدواها واقنع القائمين على الامر بها فكانت رؤاه ترمي الى ازالة المؤسسات القائمة والتي كانت تعتمد على تقليد بعض النظريات العلمية الماخوذة من الغرب والتي كانت تاثيراتها واضحة في التخطيط والتنفيذ للحكم المحلي في السودان ومنذ الاستقلال . جرأة وحماس جعفر بخيت لنهجه الجديد كانا مدعاة لنجاحه في تطبيقه وانعكاسه على نظام الحكم ، فاستبدل نظام الادارة في القرى والارياف والذي كانت تحكمه صفوة من اهل القبيلة الى التنفيذيين والشعبيين ، الا ان البعض يرى في ذلك النهج بداية لانهيار الخدمة المدنية، ومن ملامح ذلك نهجه فيما يسمي (القفز بالزانة) وما فيه من تمييز لبعض العاملين معه والذين نالوا رضاه وترقيتهم دون اقرانهم وبتجاوز لنظام ولوائح الترقي المعمول بها في الخدمة المدنية ، كما كان البعض يعيب عليه ادخال بعض المصطلحات التي لم يألفها قاموس السياسة في السودان ، وجلها يمجد الحاكم في ذلك الوقت ، ومنها ان استبدل الضباط الاداريين عوضا عن ضباط المجالس ، ورغم كل ذلك فقد لعب جعفر بخيت دورا مهما في وضع النظام الاساسي للتنظيم المايوي الاتحاد الاشتراكي . عند تأميم الصحف في الحقبة المايوية تم اختياره رئيسا لتحرير جريدة الصحافة ، وقد حدثني الصحافي المخضرم الاستاذ شيخ ادريس بركات عن نشاطه وحماسه وديناميكيته في العمل والذي تمتد ساعاته الى منتصف الليل ، ويشهد محدثي بفلسفة وعلم الدكتور جعفر ومثابرته وصبره اللذان لمسهما فيه دون رؤساء التحرير الاخرين ، وقد اسعفت محدثي الذاكرة بان يشير الى مشروع رئيس التحرير الذي اطلق عليه مشروع ( الكواكب ) وهو تعيين عدد كبير من الخريجين بالصحيفة سعيا وراء تطوير الاداء الصحفي . من اقوال الدكتور بخيت " نحن لا نريد ان ندفع عن الخدمة المدنية سبة او نحملها من المآثر ما هي غير جديرة به ، انما نريد لميزان التقييم ان يستوي ، ولارادة التغيير ان يعبر عنها اهلها ، نريد للسلطة ان تكون ملكا مشاعا بين كل القادرين على فرض ارادة التغيير " " ان ارادة التغيير لتكون هادفة للخير لابد ان تكون موضوعية بعيدة عن اسر العواطف القطاعية وولائها المحدود ، وهي في شمولها الآسر لابد ان تصطدم بالصخور المحلية ، ولكن عليها ان تذيب تلك الصخور في بحر التغيير الطامي " "ان اجدر الناس بالسلطة هم الناس انفسهم ، ينيبون عنهم اقدرهم على قيادة حركة التجديد ، واكثرهم استجابة لارادة التغيير" ومن افكاره وجوب ان تكون المسافة بين مكتب الوزير ومكتب الوكيل بعيدة بعض الشيء وحجته في ذلك ان شاغلي المناصب الدستورية يفسدون العمل التنفيذي وله فلسفته في ذلك . من الوظائف التي شغلها الدكتور بخيت ، عمادة الطلاب بجامعة الخرطوم ، وزير الحكم المحلي ، امين الفكر والمنهجية بالاتحاد الاشتراكي ، رائد مجلس الشعب ، رئيس مجلس جامعة الخرطوم من اشقائه الذين تربوا بالحي العتيق ، عبد المنعم (فخري) ، يحيى ، خالد ثم بكري ، غاب منهم من غاب وانتقل البعض الي الاحياء الاخرى او الاغتراب . والى لقاء