أثير موضوع الجزيرة أبا في مجلس الوزراء .. أقترح وزير الداخلية اقتحامها بقوة السلاح.. وقف إلى جانبه صاحباه بابكر النور وهاشم العطا .. ثار جدلاً كثيفاً حول الأمر.. وفي الأخير .. أقترحت أن أزور المنطقه بنفسي ضمن جولة طويلة لمنطقة النيل الابيض بعيداً عن مظاهر السلاح والحشد العسكري .. فتحفظ الجميع ولكنني تمسكت برأي وبدأت الزيارة.. استغرق الجزء الأول من الجولة عشرة أيام بلياليها.. كانت كلها لقاءات جماهيرية متصلة للتعريف بالثورة وشرح مبادئها.. ومع بدء الجزء الثاني، ومع اقتراب السفينة من منطقة الجزيرة أبا بدأت نذر التوتر.. انتشر الشيوعيون في مداخل المدن المتناثرة ونثروا شعاراتهم الحمراء في الهواء ، وصاروا يهتفون بمبادئ الماركسية واليسار.. وبالمقابل تجمع الأنصار وهتفوا ضد اليسار والثورة معاً ومع ذلك قررت مواصلة الجولة . ذات صباح والسفينة تتهادى على أمواج النيل الابيض الهادي إذا بمركب شراعي صغير يعكر صفو النيل ، يقترب من السفينة ، ومنه يقفز رجل بملابس عسكرية يلهث كمن جاء عدواً من مكان بعيد.. فصعد الرجل إلى السفينة وهو مازال يلهث فوجدناه العميد أ.ح عبد الله محمد عثمان رئيس فرع العمليات العسكرية بالقوات المسلحة ومعه الشيوعي معاوية وهو من أبناء الكوة.. اقترب العميد عبد الله مني، أخبرني في همس متقطع أن أخباراً تواترت إليهم عن وجود حشد مسلح من الانصار بمدينة الكوة أعدوا عدتهم للقضاء على رئيس مجلس قيادة الثورة وجميع من معه بالسفينة.. وعليه رجاني بالعودة إلى الخرطوم فوراً.. أخذت الأمر للعلم فقط ، وأعطيته أمراً بالعودة الفورية حاملاً معه كل هواجسه حتى لا يعكر صفو الرحلة كما عكر مركبه صفو النيل فعاد .. بعد لحظات كانت السفينة بالقرب من مرساها عند مدينة الكوة.. حاولت أن أرى البر فلم ألمح سوى أسنة الرماح.. أمرت من معي بالبقاء علي ظهر السفينة قررت الهبوط لوحدي.. لقد كان هتافهم .. لا سلام بلا إسلام .. وبقفزة واحدة من أعلى السفينة الى الأرض توسطت تلك الحشود المدججة بالسلاح ووجدت اثنين من أعواني قد سبقاني هما أبو القاسم محمد ابراهيم وعثمان أبو القاسم.. كانت المفأجاة أكبر من أي تصور.. صمت الجميع.. خيم عليهم صمت كامل كأنما استغرقتهم صلاة جامعة.. فكسرت الصمت بهتاف داو .. «لا سلام بلا إسلام )).. إنه ذات الهتاف الذي كانوا يرددونه.. وبآلية كاملة ردد الجميع الهتاف.. نزل الوفد المرافق من ظهر السفينة.. اختلط هتافنا بهتافهم.. سرت فساروا خلفي يرددون ، لا سلام بلا إسلام . وتتابعت خطانا ألفاً من الامتار حتى وصلنا مكان الاحتفال الجامع.. وهناك كانت قلة حمراء تهتف ضد الرجعية وتنادي بالحسم الثوري.. إلا أن هتاف السودان الموحد تحت قيادة مجلس قيادة الثورة كان أعلى من كل هتاف.. فضاع صوت شرذمة اليسار وتلاشى. قدمت للحديث فتحدثت عن الثورة مبرأة من كل انتماء إلا انتماءها للسودان الواحد ، منزهة عن كل فكر إلا ذلك الذي ينبع من واقعنا ويعبر عنه.. لقد استحسن الجميع حديثي وكان قد هيأ له نزلي اليهم دون مقدمات ودون وجل فأحسوا أنني منهم وبهم.. وعندما هتفت بذات هتافهم .. لا سلام بلا إسلام ، تأكدوا أنني جئت من السودان وللسودان وبالسلام وللإسلام .. فاستمرت الجولة دون أي مظهر للعداء إلا في موقعين ، أولهما كان عند قرية أم جر عندما جرت محاولة ساذجة لطعني ، والثانية عند مشارف الجزيرة أبا . ولأنني كنت قاصداً بالجولة أن تكون للسلام أولاً ، ولإزالة توهمات ترسبت عن إتجاه الثورة الماركسي ، أصدرت عفواً عن من حاول الاعتداء عليّ في أم جر ثم تجاوزت الجزيرة أبا وقفلت راجعاً إلى الخرطوم.. إلا أن الأمور في مجملها اتخذت مناحٍ أخرى .. في الخرطوم أشاع الشيوعيون خبر محاولة اغتيالي ومنعي من دخول الجزيرة أبا وصعدوا الأمر باتجاه أرادوا له أن يقود إلى مواجهة دموية بين الثورة والانصار . وفي الجزيرة أبا خرجت طلائع مسلحة في السابع والعشرين من مارس 1970م لتقوم بأعمال تخريبية في مدينة ربك بالقرب من الجزيرة ففجروا مصنعاً للاسمنت وأطلقوا النار عشوائياً على المواطنين، فتصدى لها جيش السودان دفاعاً عن أنفسهم وعن وحدة الوطن ، لقد كان التحرك مجرد محاولة لحصر القاعدة المسلحة في الجزيرة أبا بداخلها حتى لا تمتد يد التخريب إلى ما عداها.. لقد كان التحرك معنياً في أول أمره فقط بتحقيق وحدة وتماسك من خلال الحوار لا المواجهة . وكان عزمنا ألا يطلق الجنود رصاصة واحدة إلا دفاعاً عن النفس وعن وحدة السودان وأمنه .. ولكن .. بدأ القصف من داخل الجزيرة أبا مصوباً نحو المدن والقرى من حولها انطلقت نيران المدافع صوب الجنود المرابطين حول المدينة يترقبون.. كتبنا منشوراً موجهاً لعامة المواطنين وسادتهم بالجزيرة أبا يدعوهم لتحكيم العقل من أجل وحدة السودان وتماسكه وحملناه على ظهر طائرة تنشره بين المواطنين من علٍ.. أشاع الدجالون أن بركة الإمام قد حولت القنابل ورقاً.. فسرى الخبر بين الناس كما يسري السرطان في دم الإنسان فهلل الانصار، وكبروا ثم هجموا على القوات المرابطة فقتلوا منهم العشرات بالمباغته وجرحوا منهم عدداً كبيراً.. نظم الجند صفوفهم .. استعدوا للدفاع .. حاول الأنصار الكرة مرة ثانية.. صمد الجند.. دافعوا عن الوطن، فتكسرت هجمات الأنصار وصرع منهم عدد كبير. وخرج الإمام الهادي فوقع قتيلاً فيما بعد أثناء المطاردة وتبادل النيران. وما كادت عاصفة الجزيرة أبا أن تهدأ حتى هبت رياحها ثانية في أم درمان، وبذات الفهم الدفاعي للثورة صمد الجند أمام الأنصار فانتصر العسكر للسودان ووحدته وذهب كثير من الأنصار مأسوف عليهم لأنهم بعض أبناء السودان . حاول الشيوعيون استغلال الموقف لتصفية خصوماتهم.. تبنى ثلاثة من مجلس قيادة الثورة تيار التصفية الدموية للحزبية والطائفية، لكنني تمسكت بمبادئ الثورة أنها تفجرت أصلاً للوحدة والسلام . في ذاك الأثناء نشط الحزب الشيوعي ونشطت كوادره ونقاباته في تبني شعارات الثورة ورفعوا ضمنها شعاراتهم البراقة التي تنادي بسيادة الطبقة العاملة وديكتاتورية البروليتاريا ثم انحرفوا لمهاجمة الثورة ونهجها وقائدها المتهاون المتلاطف مع الرجعية، ثم صنفونا في خانة البرجوازية الصغيرة . طلب عبد الخالق محجوب كثيراً مقابلتي لكنني كنت أرفض ذلك دوماً. وفي ذات يوم كان الإرهاق والتعب قد أخذ مني مأخذاً عظيماً بعد يوم عمل حافل ، اقترح عليّ مدير مكتبي في ذلك الوقت العميد محمد عبد الحليم أن آوي لحظات الى الفراش في منزله أنال فيه قسطاً من الراحة لأعاود العمل نشطاً.. فوجدت الفكرة في نفسي قبولاً، فاصطحبني في سيارته إلى بيته الخالي حتى من أهله ذاك اليوم.. لم يكن جسدي يلامس الفراش استغرقني نوم عميق أظنه لساعات ثلاث.. استيقظت من النوم بين مصدق ومكذب عيني برؤية عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني جالساً أمامي.. حدثني عن حتمية التحالف بين الثورة والشيوعيين لتحقيق الغاية المشتركة في تصفية الطائفية والرجعية ، ثم حدثني عن إمكانية دعم السوفيت للسودان إثماراً لتحالف الشيوعيين مع الثورة.. ثم تغيرت لهجته وزاد إفصاحه ، فتحدث عن شروط الحزب لدعم الثورة التي يجب أن تتكافأ مع مسؤولياته في حماتها .. وكانت المفأجاة عندما تحدث عن زيادة التمثيل في مجلس قيادة الثورة حيث أن التمثيل الثلاثي قليل، وذكرهم باسمائهم ، بابكر النور ، هاشم العطا ، فاروق حمد الله ، ثم تحدث عن زيادة تمثيلهم في مجلس الوزراء وضرورة خلق وجود مؤثر للحزب داخل القوات المسلحة لضمان حماية الثورة والدفاع عنها .