هي حرفٌ (كافٍ) من كافاتِ قرى جبال النوبة ، من ذلك الزمن الذي أفلَ ولن يعود ؟! كافاتٌ توالت بداية أسماء :- كمروقية ، كابوس ، كاونارو ، كملة ، كتلة ، كيقا ، كرقل ، كلارا وحتى ... كاودا ، مخزونةٌ في الذاكرة ، نحفظها نحن المعلمون ، كما نحفظ جدول الضرب ، فقد كانت تتربص بنا في نهاية كل عام دراسي بين سطور كشف التنقلات ، مهددةً بالنقل إليها ، فهي حقاً ؛ مؤدبةٌ للعُصاةِ منَّا ، ليس من خوف على أمن ،، بل من شدَّةٍ وشظفٍ ووعثاءَ سفرٍ . فالناس فيها هناك كانوا ، (بإحسانٍ) ينامون على ( الوسائد الخالية ، بأنفٍ وثلاث عيون !! مغمضة ) آمنين مطمئنين . واليوم لا أدرى إن كان مكتوباً على وسائدهم ( لا أنام ) من الفزع ، فحشوُ فراشهم (تومي هوك) . الجبال كلها جنَّة ،، و كمروقية ، غصنٌ أخضر من دُوح جنان عدن ، شُتِل على خصيب (بطحة) – وادي أو خور-- من بطحات ( تقلي) التاريخ ، وهي إحدى أرياف بلدة العباسية ، ومُتنفسُها ، الناس إليها يرحلون و من الجوار البعيد طلباً للإستجمام تحت ظلال أشجار الفاكهة و مُثمرِ أشجار الغابات . ولكن لماذا (كمروقية) ؟؟؟ معلمة تجاوزت العقد الخامس ، ترمق بعين غائرة طلائع سِنِيِّ التقاعد تجيب :- (بعد أن طالعت عناوين الصحف وأحداث الجريمة) ذلك اليوم . تسألني :- أنظر كيف كنَّا و إلى أين صرنا !؟ إن كنَّا أنا و إياك من جِذْرِ وصُرَّةِ ، صُرَّة الشمال ! (نيليين) ، فنحن من أعماق تراب الغرب (رَمليون) ميلاداً ونشأةً ومشاعرَ وجدان ، وآصرة أخوة ، تعددت الألوان هناك فامتزجت لوناً أبيضاً ، فعمَّ سلاماً ، تعددت الألسن فيها وأجتمعت في (السلام عليكم) . ثم فارقنا مراتع الطفولة والشباب هناك وعدنا إلى الجِذر في ( النِّيل) أجساداً ، والروح مازالت (رملية) هناك عالقة ، سلوتنا الذكرى المعجونة في كل تفاصيلنا الصغيرة . أشارت بحسرة إلى عنوان في إحدى الصحف ، من تلك العناوين التي صارت كالقدر المحتوم الذي يلازمنا سرطاناً ، مضمونه :- أن ( نخبوياً محصورُ جهةٍ ووعي ) ،، في خصومة ؛ يسخر من آخر منافس له ، ما وجد في معجم الخصومة إلا مصطلحات التَّعيير باللون والجهة !!!!! ليرمي بها خصمه ، والمسكين لا يدري أن ذلك السهم الطائش مرتد عليه !!! عدلت المعلمة جلستها ، لابد أن درساً في التربية الوطنية كان ضرورياً لذلك النخبوي السياسي ، أميِّ التاريخ والجغرافيا ، الأعراق والأعراف ، قائلة :- إسمع يا هذا ؛ لذلك القائل :- ( بعض الضياع يكون مفيداً ، لنكتشف أنفسنا من جديد ) تعال على حمار خصومتك الأعرج وارحل معنا إلى (كمروقية) لتكتشف كم أنت ضائع ، عسى أن يعود وعيك من جديد !! قبل (خمسين ) عاماً وأنا تلميذة بالمدرسة ( الأولية) ،، قررتْ أستاذة الجغرافيا للصف الرابع الإبتدائي إصطحاب الطالبات في رحلة الى العباسية تقلي والتي تبعد ستين كلم من بلدتهم ، بل وإلى ريفها المخضر بلدة كمروقية ( المنطقة الشرقية من جبال النوبة حالياً ) ، إنتبه سيدي ، بناتٌ طفلاتٌ ما تجاوزت أعمارهن العاشرة ، يسافرن على لوري إلى جبال النوبة ويبتن ليلة الخميس في غير بيوتهن ، ولايدرين حتى مع من ؟ والأمهات والآباء كانوا مطمئنين فالأمور مرتبة ومحصنة ( أخلاقياً وقيمياً ) ومضبوطة إدارياً بل والأهم حضور قيم مجتمعية تشربت خلق العقيدة الجامعة اللامة . ما كنت ضمن طالبات ذلك الصف ولكني أصررتُ أن أرافق شقيقتي التي تكبرني في الرحلة رغم صغر سني ، فقد كنَّ يكبرنني بصفين دراسيين , تحت إلحاحي المَرويِّ بالدموع وافقت المعلمة على إصطحابي . طفلة ،،، وإلى (جبال النوبة) سيدي النخبوي!!!! نزولاً لرغبتها المعززة بالدموع !! وهناك في ( كمروقية ) كان المشهد بل الصورة اللوحة الإنسانية ، التي نحتت بألوانها رسماً في الذاكرة لم ولن تطمسه كل أفعال الراجمات والصواريخ الشريرة ولا أقوال العالقين على مشانق (نظريات) الفرقة الجهوية والعرقية والدينية ، الجهلة ! الصورة سيدي النخبوي ( المحصور) هناك تحكي :- إستقبلننا من هنَّ في أعمرانا ، فكل واحدة منهن عليها أن تستضيف واحدةً منَّا نحن الزائرات ، من غير إسم أو لون أو عرق ! مزيج أبيض في أسود ، فصيح على أعجمي ، كنَّ يتسابقن (سباق الصيادين طلب كل نصيبه ) لتحظى كل واحدة بضيفة ، تبيت الليلة بدارهم (قطية كانت أو راكوبة) وتشاركها عشاء جودٍ بالموجود ، وأُنساً مع الأسرة المضيفة و شاي الصباح ولابد من توابعه التي ما عرفت الكيك ولا البسكويت !! (تآخي المهاجرين مع الأنصار) كانت أختي من نصيب مُضيفة وأنا من نصيب أخرى ، لصغر سني رفضتُ الذهاب وحدي وأجهشت بالبكاء مصرة أن أرافق أختي في المبيت مع مضيفتها ، ويا للروعة !! فقد ألحت من كنتُ من نصيبها ألا تتركني لغيرها ، صراخ وبكاء والدموع تملأ خديها وإصرار وهي ممسكة بكلتا يديها على خاصرتي ، مشهد لا شك تصفق له هاتفة القلوب الطاهرة :- ( ما أكرم الإنسان حينما يكون طفلاً) مشهد أجبر المعلمات أن على إبرام (إتفاقية) ترضي المهاجرة والانصارية ( لا كإتفاقيات اللا إتفاق) ، وذلك بإستبدال مضيفة شقيقتي بأخرى جارة لمضيفتي على أن نبيت الأربعة في مكان واحد ، الشهادة لله بتنا ليلتنا تلك محفوفين بأسرتَي زميلاتنا آباء وأمهات وإخوانا وجيران .. الخ ، والإحساس الغامر لي كان ، هذا أبي وتلك أمي وهؤلاء إخوتي ، فنمت نوم غرير العين ! أختي هناك في (كمروقية) لا أدري ما فعلته العقود الخمسة الفارقة ، ولكن الذي أعرفه أنَّ دموعك وسواعدك التي حاصرت خاصرتي ما زالتا تشدان الذاكرة إلى (كمروقية) داراً وأهلاً . أنت هناك من بين أشجار الليمون والجوافة في أرض (تقلي) وأنا هنا من تحت نخلة على ( نهر النيل) ، تعالي نهزها جميعاً ، ليموناً وجوافة ورطباً ، تتساقط كلاماً طيباً هو نفسه ذاك ، الذي ألف بيننا ليلة مؤاخاة المهاجرين مناَّ بالأنصار منكم ،، أنسٌ رسمناه أطفالاً لوحةَ إخاء ومحبة ، لنرسله اليوم رسالةً للكبار الذين لايعلمون حقيقة أن الأطفال يصنعون الحياة من غير رصاص بنادقهم ولا آسن قولهم الفارق جهةً وعرقاً . لن يصير الكبارُ الصغارُجداً ، أطفالاً كباراً جداً ،، حتى يعودوا إلى (كمروقية)