من نافلة القول أن المؤسسات العسكرية (القوات المسلحة) في كل العالم أكثر مؤسسات الدولة انضباطاً فهي تقوم على الهرمية البحتة فلا يوجد شخصان (في سرج واحد) مطلقاً حيث تحكم الأقدمية بين كل شخص فيها والآخر .. ومن (بديع) ترسيخ مثل هذه المعاني في (مخيخنا المدني) ونحن حديثي عهد بالعسكرية وفي طور أن (نتعسكر) قول أحد الضباط الذين تدربنا على أيديهم أنه لو وقف هنا في (أرض التمام) فسيقف هذا الطالب (غير المنضبط) على شاطئ البحر الأبيض المتوسط أقصى شمال مصر ولربما كاد أن (يقع فيه).. والعبارة (منتهى الدقة) ومأخوذة من المكان (الفيزيائي) لوقوف ضباط الكلية أمام كتيبة الطلبة وليس العكس وما على هذا الطالب غير المنضبط غير أن يشكل شمال هؤلاء القادة ولن تحوشه الجزيرة اسلانج ولا نهر النيل ولا وادي حلفا ولا صعيد مصر ولا القاهرة بل سيجد نفسه في المتوسط (اسكندراني).. أخذت الاجهزة الأمن والمخابرات قسماً من هذا الانضباط العسكري (تماهياً) وجعلته من سماتها فهي أجهزة مطلوبٌ فيها كذلك وبشدة احترام الأقدمية وتقوم على (التعليمات والتوجيهات) وإن كان بدرجةٍ أقل من القوات المسلحة.. وحال خرق هذا الانضباط أو محاولة الإفلات من (دائرة القاش) أو (النطاق) كما يقال في بعض الدول العربية الذي (يذكّرك) دوماً وأنت تضعه بأنك تنتمي لجهة نظامية لها قوانينها ونظمها التي لا تقبل القسمة على اثنين.. ومن يفعل ذلك يقع في (مزالق العسكرية) التي قال لنا بها ذات يوم الراحل العميد الركن حينها بابكر محمد الأمين رحمه الله رحمة وسعة.. وكما أن (دخول الحمام) ليس مثل خروجه فدخول المحكمة وإن صغرت وكانت على شكل (مكتب) القائد فلن تخرج إلا بقدرٍ من الكدر (المعنوي) والتكدير (الحسي) وهذا وحده يكفي للإشارة لعدم الضبط والربط بغض النظر عن الحكم الصادر بحقك في الأنباء التي راجت خلال يوم أمس قيام رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت بإقالة بنيامين بول ميل من منصب نائب رئيس الجمهورية وكنائب أول في الحركة الشعبية وإبعاده عن جهاز الأمن وعزله من رتبة الفريق أول إلى رتبة الجندي (النفر).. هكذا دفعةً واحدةً كل هذه الإقالات والعزل التي تنبي عن غضب عظيم وجرم وخيم اقترفه هذا الفريق أول ذو السبعة وأربعين عاماً وهو الذي كان من أقوى المرشحين لخلافة سلفاكير سيما وانه من دينكا بحر الغزال.. ليس اللافت اجتماع العقوبات التي وقعّها الرئيس سلفا على الرجل ولكن اللافت العزل من رتبة الفريق أول إلى جندي والتي لا تحدث ولو كنت تلعب (السلم والثعبان) ولكنها تحدث في جنوب السودان.. وبالحساب (البسيط) فالقرار يعني انحدار الجنرال ميل خمسة عشر رتبة في عزل غريب عجيب لا يستقيم قانوناً ولا عقلاً ولا منطقاً.. (فالعبرة) ليست بعدد الرتب التي تم تخفيضها بل بالعزل من المناصب السياسية والأمنية وكان يمكن الاكتفاء بعبارة (وتجريده من الرتبة العسكرية) ولكن جنوب السودان بلد العجايب.. وأختم لكم بأن المكاتب كما يقال بعض (المبظبطين) ما برا الجيش وهي أمر عادي وأي حكم يصدر عن مكتب ولو كان نصيحة يجعلك تتحسس مكان قدميك سيما وتراجيديا النطق بالحكم وتزداد التراجيديا بضرب البروجي عندما يكون الحكم شديداً كما تم فصل البعض من الكلية الحربية وكنا شهوداً.. أما أشهر مكتب سار به الركبان وصار مثلاً وطرفة من طرف القوات المسلحة (مكتب يبيع الجداد ويرحل العنبر .. مكتب انصراف).