رحل حازم عبد القادر، محافظ بنك السودان، على جناحي الفجأة والفجيعة. ذهب إلى تركيا للراحة والاستجمام وتخفيف الهموم والأعباء، حتى يعود لمواصلة معركته من أجل تثبيت سعر الصرف في وجه العواصف العاتية، واستعادة العافية للجنيه، وإيقاف نزف القيمة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. الرئيس البشير قالها في التأبين أمس: الراحل احتمل ما لا تحتمله الجبال. عَاجَله الموتُ في ميقات العيد، بعيداً عن الأهل والأحباب، وعاد في صندوقٍ خشبي، لا في مقاعد الدرجة الأولى، وما تدري نفس بأيِّ أرضٍ تموت. احتملَ الكثيرَ منَّا ومن آخرين، بحلم وصبر جميل، انتقدناه مراراً وتكراراً، ولم يزده ذلك إلا تسامحاً ولُطفاً. لم يُقطِّب الجبين أو يرمقنا بنظرات غاضبة أو مُعاتِبة، كما يفعل البعض، ولم تبرد راحة يده في المصافحة، ولم يَسْعَ للانتقام لنفسه، بقدر ما لديه من سلطة وقرار، كما يفعل الصغار! له الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون. حكم سودانية ذهبت إليها نهار العيد لشراء (كسرة).. وجدتها امرأةً سودانيةً من غمار الناس، الطيبة والسماحة واللطف الشفيف. كانت تسحبها (طرقةً طرقةً)، وتضعها داخل الكيس، قالت لي دون سابق مناسبة: (بناتي قالوا لي يمه ما تطلعي تبيعي كسرة يوم العيد، قلت ليهم يا بناتي العيد بالفي الإيد). شابٌّ مُتسوِّلٌ قرع الباب يبحث عن طعام، قال وهو يسحب أقدامه مُغادراً: (يا أستاذ نحن ناس كويسين، لكن هزمنا الوطن). الحكمة على ألسنتهم، والأسى في عيونهم، أنهكهم المشوار (اليوماتي) من الجبل للسهل ومن الصعب للسهل، لكم الله فقراء بلادي في السماء والأرض: ويجيئك الفقراء لا خبزٌ لديك، ولا دعاءٌ ينقذ القمح المهدّد بالجفاف. تقول شيئاً ما عن الغضب الذي زفَّ السنابل للسيوف. تقول شيئاً ما عن النهر المخبّأ في عباءات النساء القادمات من الخريف. فيضحكون ويذهبون، ويتركون الباب مفتوحاً لأسئلة الحقول. محمود درويش هاشم لا تطفئ الأنوار الرجل الجميل هاشم بن كرار: ضحكك شرح قلب السما لوّن سحاب كل الفضا هزّ وتر الأزمنة رطّب الصحرا ولمس عصب الجبل. دمت كما أنت نبيلاً نقيَّاً تضحك مع الورد وتنام قبل الزهور، رمزاً للتواصل والرحيل والود الجميل ولا تعرف المستحيل. أرجوك قاوم الإحباط، ولا تُطفئ الأنوار، كن مع شابو وانشد معه: قلبي يزيد اتساعاً لكل البشر وأغدو خفيفاً تقياً…. تساقط عني الصدأ وأزهر فيّ الكلام الجميل.
