شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد بالفيديو.. (يووووه ايه ده) فنان سوداني ينفعل غضباً بسبب تصرف إدارة صالة أفراح بقطر ويوقف الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    شاهد بالفيديو.. (يووووه ايه ده) فنان سوداني ينفعل غضباً بسبب تصرف إدارة صالة أفراح بقطر ويوقف الحفل    "الجيش السوداني يصد هجومًا لمتمردي الحركة الشعبية في الدشول ويستولي على أسلحة ودبابات"    غوغل تطلب من ملياري مستخدم تغيير كلمة مرور جيميل الآن    يبدو كالوحش.. أرنولد يبهر الجميع في ريال مدريد    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    وجوه جديدة..تسريبات عن التشكيل الوزاري الجديد في الحكومة السودانية    (برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية العقل والوحي (النقل) ..بقلم د. نصر حامد أبو زيد
نشر في حريات يوم 18 - 04 - 2013


بقلم د. نصر حامد أبو زيد..
العقلانية البرجماتية:
يختلط الأمر في ثقافتنا الشائعة الراهنة بين “التفكيك"، بمعنى التحليل النقدي، وبين “التفكيك"، بمعنى الهدم، حيث يتصوّر الناس أنّ الفهم النقديّ يعني “النقض" بالضاد. وترتبط كل هذه الالتباسات والتشوّشات في الوعي السائد بمفهوم “العقلانية"، الذي يتصوّره عامّة الناس نقيضا للوحي والإيمان. ومع ذلك فلا بدّ من تأسيس “العقلانية" وترسيخها في الوعي العامّ إذا كان لهذه الشعوب، التي ننتمي إليها، أن تكون جزءا من العالم المعاصر، جزءا منتجا مساهما في صنع الحضارة، لا مجرّد مستهلك لأدواتها. تأسيس العقلانية مهمّة صعبة، وليست مستحيلة؛ ذلك أنّ الفكر الخرافيّ يمرح في مناطق بعينها في ثقافتنا، بينما يمرح في مناطق أخرى فكر يبدو عقلانيا، ولكنّها العقلانية البرجماتية التي لا تستغني عنها الحياة.
بعبارة أخرى، من المستحيل في العالم المعاصر أن تخلو الحياة اليومية من سلوكيات ذات طبيعة منتظمة: يحتاج الإنسان للخروج إلى العمل، وللوصول إلى مكان العمل، ولتدبير شئون حياته اليومية، وكلّ ذلك لا يتمّ بغير درجة من درجات التعقّل. تسيطر هذه العقلانية البراجماتية في مجال البيزينس مثلا – فكر رجال الأعمال – حيث الحاجة ملحّة إلى نمط من الفكر الليبراليّ، الذى ينتمي لمجال العقلانية. لكن علينا أن نؤكد أن هذه اليبرالية الاقتصادية تمّ تقبّلها في عالمنا بحكم الضغوط الكوكبية، أي أنّها ليبرالية مقيدة بحدود “آليات السوق". إنّها ليبرالية براجماتية، منزوعة الصلة بالليبرالية الفكرية، التي تأسّست عليها الليبرالية الاقتصادية في أوروبا.
في الفكر السياسي تمّ قبول “الديمقراطية" أداة للحراك السياسي، لكنها ديموقراطية إجراءات وانتخابات، يسهل تزييفها بسبب انتفاء أهم شروطها، الحريات الفردية والفكرية. كل هذه العقلانية البرجماتية، التي لا غنى عنها لسير الحياة، تتبدّد أشلاء حين يقترب أيّ مفكّر من مجال الظواهر الدينية؛ ذلك أنّ “العقلانية" – في الوعي السائد – ضدّ الدين، تأسيسا على وهم أنّ التفكير يفضي إلى اهتزاز الإيمان، وربّما ينتهي إلى الكفر والإلحاد. هكذا يتعلّم أطفالنا في المدارس، وهكذا تضخّ الفضائيات سمومها ضدّ العقل والتفكير. ومع ذلك فلا خلاص لنا إلا بفضّ هذا التنازع والعداء بين العقل والدين (الوحي). يقول المشايخ هذا ما قاد أوروبا إلى الإلحاد، وهؤلاء العقلانيون لا ينتمون لثقافتنا التي هي ثقافة “الوحي".
الوحي والشعر:
صحيح أن الثقافة العربية – تاريخيا – هي ثقافة الوحي، بمعنى أنّ “الوحي" يمثّل فيها معطى أوليا – أشبه بالبداهة – خاصة بعد أن استقرّت سلطته بإزاحة الشعر عن مكانته في القرن السابع. كان الشعر “ديوان العرب"، وكان “علم قوم لم يكن عندهم علم غيرهم"، كما يقول النقاد الكلاسيكيون. حلّ “الوحي" الإلهي محلّ الشعر بإزاحته إلى فضاء “الوحي الشيطانيّ": يهدف الوحي الإلهيّ إلى “الهداية"، بينما يفضي الشعر إلى “الغواية" (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كلّ واد يهيمون، وأنهّم يقولون ما لا يفعلون؟)
جدلية الوحي والعقل عند المسلمين:
يجب الحذر كذلك من وضع العلاقة بين العقل والوحي في صيغ دوغمائية ثنائية حادّة، مثل ثنائية “الظلاميّ" و"التنويريّ". الأمور أكثر تعقيدا من هذه التبسيطات. ففي تاريخ الثقافة الإسلامية لم تكن إشكالية العقل والنقل تنبني على أساس إمّا هذا وإمّا ذاك، بل كان السؤال هو سؤال تحديد طبيعة العلاقة بين الطرفين – العقل والوحي – دون إلغاء أحدهما.
لم ينكر أحد من أنصار “النقل" أهمية العقل، إذ بدون حكم العقل لا يثبت صدق الوحي، من هنا تحدّد دور العقل عندهم – بعد إثبات صدق الوحي – في استنباط الأحكام والتشريعات من الوحي. أنصار “النقل" يؤكّدون أنّ الوحي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في شئون الحياة – في الحاضر والمستقبل – إلا أحصاها وبيَّنَها إمّا بشكل مباشر وصريح، أو دلّ على طريق بيانها بنصب الدلائل المفضية إلى استنباطها.
دور العقل عند هؤلاء هو إثبات الوحي، ثمّ تنحصر مهمّته بعد ذلك في البحث عن الحلول فيه. يمكن القول إنّ هذا موقف الفقهاء، وعلماء أصول الفقه بصفة عامّة، مع وجود بعض الفروق التفصيلية في هذا المذهب أو ذاك، وبين هذا الفقيه أو ذاك. إنها باختصار الرؤية التشريعية للإسلام، حيث “الواجب والمُحَّرم والمندوب والمكروه" هي الجهات الأربع التي تحيط بالمباح في عالم الإنسان “المُكَلَّف"، الذي يتحدّد مصيره الأخرويّ في مدى الطاعة – أو العصيان – داخل هذه الحدود.
أنصار العقل، من جهة أخرى، لا ينكرون مرجعية الوحي، بل ينكرون شمولية الوحي في تقديم حلول لكل النوازل في الحاضر والمستقبل. هناك الكثير من الأمور المتروكة لمرجعية العقل، ومنها أو على رأسها تأويل “الوحي" طبقا لمرجعية العقل، وذلك في حالة وجود تعارض “ظاهري" – هكذا يؤكّدون جميعا أنّ أيّ تعارض هو تعارض ظاهريّ فقط – بين العقل ومعنى الوحي. العقل قادر وحده – يؤكد أنصار العقل – على الوصول للمعارف الكلية الأساسية فيما يتصل ببنية الكون (الفيزيقا)، وما وراء الكون (الميتافيزيقا). العقل قادر وحده كذلك على معرفة الخير والشرّ، والحسن والقبح في الأفعال والسلوك الإنسانيّ؛ فالعقل في النهاية هو شارة الإنسانية، تمييزا للإنسان عن الحيوان. لكنّ هذا العقل يحتاج للوحي ليساعده في معرفة التفاصيل الكمية والكيفية التي من خلالها يمكن للإنسان آداء ما وصل إليه العقل من “تكليف" بوجوب شكر المنعم الواهب للعقل وللوحي معا.
بين الموقفين موقف ثالث هو موقف الصوفية – أهل الله – حيث العقل على أهميته وحيويته ليس كافيا، وحيث الشريعة وسيلة وليست غاية. للعقل حدّ يقف عنده، فالعقل لا يُمَكِّن الإنسانَ من معانقة الحقيقة، وإن كان يعرِّفه بها تعريفا تجريديا. بالعقل يعرف الإنسان ما يجب وما لا يجب أن يُنْسَب إلى الله من صفات وأسماء، ولكنّه لا يقرِّب الإنسان من الله، الذي هو بنصّ القرآن “أقرب إليه من حبل الوريد". الشريعة من جهة أخرى مجرّد طريق – وهذا هو المعنى اللغويّ الأصليّ لكلمة شريعة – يجب أن يكون له غاية يفضي إليها. الشريعة إذا لم تؤدّ إلى غايتها – وهي الحقيقة المُعايَنة المُشاهَدَة – تصبح ممارسات شكلية لا جدوى منها، مثلها مثل المعرفة التجريدية، التي يؤدّي إليها العقل. هكذا أسّس الفكر الصوفي مفهوم “التجرية الروحية"، لا كبديل للعقل والشريعة، بل كطريق لتعميقهما، وتجاوز التعصب لأحدهما على حساب الآخر.
جدلية الداخل والخارج:
لا يمكن الفصل بين “الداخل" و"الخارج" في مناقشة إشكالية العقل والوحي، لا في تجلّياتها وتعبيرتها التاريخية، ولا في السياق الذي تثار فيه الآن. يكفي أن نذكر محاضرة بابا الفاتيكان، التي أثار فيها لاعقلانية الفكر الإسلامي، استنادا إلى قول أمبراطور بيزنطة في القرن الثاني عشر. المواقف الثلاثة، التي ذكرناها في الفقرة السابقة، لم تتحدّد في سياق التاريخ الثقافي الإسلامي بمعزل عن التواصل مع العالم الخارجي. العرب المسلمون، الذين حملوا الإسلام خارج الجزيرة العربية ليقيموا إمبراطوريتهم، حملوه كشتلة – فسيلة – قابلة للنموّ والنماء؛ فنمت في سياقات ثقافية وحضارية متباينة، وارتوت من عصير تلك الثقافات والحضارات؛ فنشأ علم الكلام تاليا للفقه أو موازيا له، وتطوّر علم الكلام إلى الفلسفة بدءا من الكندي. وانقسمت الفلسفة إلى مدارس واتجاهات إشراقية ومشائية. ونشأ التصوّف من الزهد وتطوّر إلى نظرية “الحبّ" عند رابعة العدوية، ثمّ العرفان عند “ذي النون المصري"، حتي وصل إلى البناء الفلسفي الشامخ عند “ابن عربي". هذا فضلا عن نشأة علم التاريخ والجغرافيا والرياضات والطب، وتطور الشعر وانبثاق أشكال جديدة للقصيدة، وتطور فنّ العمارة، وازدهار الغناء والموسيقى.
كل ذلك لم يكن يمكن أن يتحقق لو بقي العرب والإسلام داخل حدود الجزيرة العربية، ولو لم تساهم كل تلك الشعوب بتراثها وثقافتها وحضارتها في تخصيب شتلة الإسلام التي حملها العرب. المشكلة في العصر الحديث أن العالم الإسلامي بعد أن استيقظ – من فترة سبات، طالت قرونا عديدة، تجمد فيها النقاش – على وقع أقدام الغرب المتطور، المتقدم، تطأ أرضه غازية مستعمرة، وقع في تناقض لم يخرج منه حتى الآن: لا تقدم إلا بالتعلم من نفس هذا العدو، الذي يجب في نفس الوقت أن أحاربه. هذا التناقض لم يحل، حتى الآن، بالتمييز مثلا بين الأطماع الاقتصادية السياسية للغرب، وبين التقدم العقلي والعلمي والتقني، الذي أحرزه. لكن علينا أيضا ألا ننسى أو نقلل من شأن الخطاب الاستعماري المتعالي – بل والعنصري أحيانا – لهذا الغرب في نظرته للشعوب التي استعمرها. ارتبطت النظرة المتعالية بادعاء تنويري لإنقاذ الشعوب المتخلفة من تخلفها.
الموقف الداخلي في العالم الإسلامي عموما، والعالم العربي على وجه الخصوص، اتسم بالتوتر نتيجة هذه العلاقة الملتبسة بالغرب. هذه قصة طويلة يمكن اختصارها في الحلول التي اقترحت، وما تزال مطروحة، مع تفاوت قوة الأصوات المعبرة عن كل منها آنذاك والآن:
الصوت الأول الذي كان له الحضور في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين – وهو الصوت المستمر إلى الآن وإن بنغمة سلفية تقليدية – هو صوت “الإصلاح": التعلم من الغرب بالقدر الكافي الذي يؤهل العقول لتجديد الفكر الإسلامي، وبعث الحيوية التي كانت فيه في عصور الازدهار والقوة. الصوت الثاني الأضعف آنذاك صوت أصحاب وجوب اتباع خطى الغرب حذوك النعل بالنعل: هذه هو سبيل التقدم ولا سبيل سواه. لكن هذا الصوت الأضعف لم يكن – كما يشاع الآن – معاديا للدين، بل كان يرى الدين أمرا شخصيا بين الفرد وربه.
تأزم الموقف وتباين الأصوات:
وفي حين ركز الصوت الأول – صوت الإصلاح – وما يزال على الهوية الإسلامية، باعتبارها الهوية الحضارية لكل شعوب المنطقة مسلمهم وغير مسلمهم، ركز الصوت الثاني على هوية “المواطنة" بعيدا عن الدين. كان السجال بين الصوتين سلميا، في مناخ شبه ليبرالي، حتى كان إلغاء الخلافة، وإعلان تركيا جمهورية علمانية. كان ذلك بداية التأزم والاحتقان في سؤال الهوية: فشلت محاولات إقامة خلافة جديدة، بسبب ادعاء كل حاكم أنه الأولى بالمنصب الشاغر. وحوكم “علي عبد الرازق" محاكمة دينية على كتابه في مصر التي كانت ما تزال شبه ليبرالية. كشفت هذه المحاكمة، وما قبلها وما بعدها، عن بنية هشة لدولة ونظام سياسي يسير بساق ليبرالية وبأخرى ثيوقراطية.
تصاعدت في الهند نغمة تأكيد الهوية الإسلامية، ضدّا للهوية للوطنية، في خطاب أهمّ فلاسفة الهند في القرن العشرين، “محمد إقبال" الأب الأكبر الداعي لإنشاء دولة للمسلمين، فلم يمض 17 عاما على خطابه ختى تم إنشاء دولة “باكستان"، التي لم يشهد هو مولدها.
بعد الحرب العالمية الثانية، تم إنشاء وطن لليهود في فلسطين بمساعدة أوروبا العلمانية، في نفس عام إنشاء باكستان. مع فارق مذهل بين الحالتين؛ حيث قام الوطن القومي لليهود على طرد شعب آخر من أرضه وتحويل أغلبه إلى لاجئين.
أزداد الاحتقان في سؤال الهوية، وما زال يتزايد، حتى تم اختصارالهوية تدريجيا في إسلام “الشريعة"، أو الرؤية التشريعية للإسلام. صارت “الشريعة" هي الممثل الوحيد للإسلام، بديلا عن الرؤي المتعددة التي كانت بدورها تمنح الرؤية التشريعية في الماضي خصوبة تفتقدها الآن. في غياب الرؤى الأخرى فقدت الرؤية التشريعية ديناميتها، وصارت نداءات فجة وعقيمة لتغطية المرأة وإخراجها من حيز الفضاء الاجتماعي. وأخيرا تحولت “الشريعة" إلى سلاح لمطاردة المفكرين والمثقفين والمبدعين، ومحاكمة أي خروج على ثوابت وضعية، وضعها بشر ليسوا هم الأذكى ولا الأعلم ولا الأكثر حكمة، بل هم حلفاء كلّ السلطات العسكرية العشائرية المشيخية الديكتاتورية التي تستريح لوهم أنها تمثل الإسلام وتدافع عنه. المشكلة في الأساس هنا في الداخل، وليست هناك في الخارج، مع تأكيد أن الفصل بين الهنا والهناك، بين الداخل والخارج، في هذا العصر نوع من الهذيان.
أعداء العقلانية وسلطة النصوص:
لأن العقلانية ضد الاستبداد، وضد الشمولية، ناهيك عن عدائها للعنصرية، والعصبية للدين أو المذهب أو الجنس أو العرق، فإن عليها أن تواجه العداء من كل هذه الأقطار. كل هذا القيم المضادة للعقلانية قيم ترسخت في الثقافة السياسية والدينية والاجتماعية، وإن تجملت باتخاذ أسماء أخرى: مثل تقاليدنا الراسخة، قيمنا الدينية والأخلاقية العريقة، احترام الكبير وتوقير أولي الأمر. إنه “الثبات"، ضنمنا المقدس، و"الثوابت" أبقارنا المقدسة. يتنفس أطفالنا هذه القيم من لحظة الميلاد، يتلقنونها في المدرسة، تُضخُّ في أسماعهم من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ليل نهار. وحين ينضجون ويبدأون رحلة التعليم الجامعي يجدون المحرمات والممنوعات أكثر من المباحات والمسموحات. إنها الدائرة الجهنمية التي تعيشها مجتمعات “التكفير"، باسم حماية الدين، وحماية العقائد والمقدسات، والحرص على الثوابت. باختصار إنها المجتمعات التي تجرِّم التفكير لتفسح للفساد أن يمرح فيها. هذا كله يعني الحاجة الملحة لحرث التربة حرثا كاملا.
لا يمكن تأسيس العقلانية دون الدعوة للتحرر من سلطة النصوص، سلطة الماضي الطاغية التي تحتمي بها الديكتاتورية والطغيان والاستبداد، ويزدهر تحت مظلتها الفساد. التحرر من سلطة النصوص ليس إلغاء للنصوص أو دعوة للتخلص منها، بل دعوة لتسليط ضوء العقل عليها، وقراءتها قراءة سياقية في ضوء تاريخها وتاريخ الفاعلين الاجتماعيين الذين أنتجوها. النصوص الدينية – القرآن والأحاديث النبوية – لها سياق لا يصح تجاهله أيضا، وهذه النصوص الدينية تكتسب سلطتها لا بذاتها. هي في ذاتها لا سلطة لها، إنما منحها البشر، الذين يؤمنون بها هذه السلطة. بعبارة أخرى، إنها السلطة الإنسانية، النابعة من الإيمان، هي التي تُضْفَى على النصوص.
لكن “الإيمان"، وحده، لا يحول النصوص إلى سلطة. تتحول النصوص إلى “سلطة" حين يتأسس الإيمان في شكل مؤسسات، ويتم تقنينه لاهوتيا. وهذا يحدث في سياقات تاريخية، ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع “الإيمان"، أو بين مجتمع “الإيمان" وبين مجتمعات “إيمان" أخرى. داخل مجتمع الإيمان، يراد التمييز بين التصورات والشروحات والممارسات المتعددة؛ فتقوم السلطة السياسية بفرض “عقائدها"، واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بِدَع أو هرطقات. وقد رأينا، في تاريخ الدولة العباسية مثلا كيف كانت عقيدة المعتزلة، في “خلق القرآن"، عقيدة الدولة، ثم استحالت “هرطقة" ترقى إلى درجة الكفر، بعد أقل من ثلاثة عقود ليس إلا.
هذا التميز السلطوي بين التصورات والشروحات المتعددة، باحتكار واحد منها بوصفه “الحقيقة"، التي لا حقيقة سواها، يتم في سياق أكبر وأوسع، هو الصراع مع المجتمعات غير المسلمة، سواء داخل المجتمع أو مع مجتمعات خارجه، الإمبراطورية البيزنطية على سبيل المثال. هذا يفضي إلى النتيجة التي فحواها أن التحرر من سلطة النصوص هو التحرر من السلطات التي احتمت وتحتمي بتأويلاتها، زاعمة أن هذه التأويلات هي “النصوص" بلا زيادة ولا نقصان. الدكتور حسن حنفي له عبارة طريفة ولكنها دالة – وهو مشهور بصياغة أمثال هذه العبارات الطريفة الدالة – “احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص".
من هنا، يجب أن تفهم هذه الدعوة للتحرر من سلطة النصوص، بالتركيز على كلمة “سلطة"، لا بالتركيز على كلمة “نصوص". السلطة قيمة مضافة بفعل الفكر الإنساني، أبوية النصوص هي أبوية السلطات التي تدعيها، وحضن النصوص هو حضن السلطات التي تستتر وراءها. كل ذلك يحتاج لتفكيك. يبقى “الإيمان” الحر هو الحماية الحقيقة، أعني الإيمان الذي هو “العقد" – من هنا كلمة عقيدة – بين الفرد أو الجماعة وبين نصوصها المقدسة، دون وساطة أي سلطة، بما فيها سلطة المثقف أو المؤول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.