لماذا كابرتَ إلى هذا الحدّ أيها الرجل الأسمر؟ لا أحد كان في بياض قلبك غير الثلج على قارعة التجاهل ، تكوّم ذلك الشاعر ، وترك الثلج يُكفّنه في أحد شوارع القاهرة . محمد بهنس ابن السودان الطيّب الكريم ، كان يثق في كرم الثلج ، يُفضّل على حياةٍ يتسوّل فيها ركناً دافئاً في قلوب الغرباء ، ميتةً كريمة ، لا يمدّ فيها يده لأحد . يده تلك التي لم تكن تصلح سوى للعزف وكتابة الشعر . لماذا كابرتَ إلى هذا الحدّ أيها الرجل الأسمر؟ لا أحد كان في بياض قلبك غير الثلج . وما جدوى أن نبكيك الآن ، وما عُدتَ معنياً بدمعنا ، وأن نزايد عليك شاعريّة ، لأنك هزمتنا عندما كتبتَ بجسدكَ الهزيل المُكفّن كبرياءً ، نصاً يعجز كثير من الشعراء المتسوّلين الأحياء عن كتابته . لم أقرأ لكَ شيئاً ، ولا سمعتُ بكَ قبل اليوم ، ولكني صغرتُ مذ مُتّ جائعاً على رصيف العروبة البارد . كلّ كلماتي ترتجف برداً في مقبرة الضمير ، عند قبرك المُهمل . أيها السوداني النبيل ، قل أنّك سامحتنا ، كي لا أستحي بعد الآن كلّما قلتُ أنني كاتبة . في زمن مضى ، كانوا يكتبون على حائط في شارع " اخفض صوتك . هنا يسكن شاعر يكتب الآن " . اليوم يعبر المارة أمام جسدِ شاعر مُتكوّم من البرد ، فيسرعون الخطى كي لا تقول لهم الجدران " أدركوه.. ثمّة شاعرٌ يموت الآن " . لا أرضى على نفسي أن أدخل السودان فاضية اليدين ، وقد فاض قلبه بحبي ورد اليوم تعقيب من قارئ سوداني يُعلّق على رثائي لمحمد بهنس رحمه الله ، جاء فيه : " حتى أنتِ يداك ملطخة بدمه ! مات بهنس في برد ليل القاهرة وغيره ماتت ضمائرهم في وضح النهار " . برغم كونه تعليقاً فريداً بين أكثر من ألف تعليق مستحسناً التفاتتي إلّا أنه ترك ألماً في نفسي ، لأنه جاء من السودان الحبيب بالذات ، الذي منذ أكثر من سنة ، و أنا أفاوض فيه جهات سودانية في مجال الإتصالات لإطلاق مشاريع خيريّة وتعليميّة ، مقابل حق استغلال اسمي إشهارياً . وهو الشرط الأول الذي وضعته ، لأنني لا أرضى على نفسي أن أدخل السودان فاضية اليدين ، وقد فاض قلبه بحبي ، ولم يُؤخر هذا المشروع إلّا جديّة العمل ، وحرصي على نجاحه . أقول هذا ، لأنّ البعض يُبادر بالانتقاص من انسانيتك ، وصدق مشاعرك دون أن يملك دليلًا على ذلك ، سوى عدم إشهارك لنواياك ، ولِما تسعى إليه في الخفاء . فلا تقتلوا عن جهلٍ بذرة الاحسان في قلوب حامليها ، وتغتالوا حماسهم ، في زمنٍ هو أصلاً مُحبطٍ للعزائم . احلام مستغانمى