لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    في شنو تفاوض (جاك ديارا) وتسجل (بخيت خميس)؟!    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    التغيير الكاذب… وتكديس الصفقات!    السودان والحرب    حركة متمرّدة جديدة بقيادة عضو سابق في المجلس التشريعي الوطني    الأهلي يكسب الفجر بهدف في ديربي الأبيض    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يعود لإثارة الجدل: (بحب البنات يا ناس لأنهم ما بظلموا وما عندهم الغيرة والحقد بتاع الرجال)    بالصورة.. الممثل السوداني ومقدم برنامج المقالب "زول سغيل" ينفي شائعة زواجه من إحدى ضحياه: (زواجي ما عندي علاقة بشيخ الدمازين وكلنا موحدين وعارفين الكلام دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    شاهد بالفيديو.. ظهر بحالة يرثى لها.. الفنان المثير للجدل سجاد بحري يؤكد خروجه من السجن وعودته للسودان عبر بورتسودان    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد بهدف لكلٍ في كأس العالم للأندية    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي : الفَسَادُ بينَ الممارساتِ السُّودانيَّةِ والالتزاماتِ الدَّوليَّة!
نشر في حريات يوم 03 - 08 - 2014

الفَسَادُ بينَ الممارساتِ السُّودانيَّةِ والالتزاماتِ الدَّوليَّة!
كمال الجزولي
(1)
يعتبر "الفساد"، بحسب "منظمة الشفافيَّة الدوليَّة"، إساءة استخدام للسُّلطة العامَّة بغرض تحقيق مكاسب شخصيَّة. فهو فيروس قاتل لأيَّة دولة، خاصَّة إذا كانت نامية، إذ يقضي، في المستوى السِّياسي، على مجرَّد الحلم بأيِّ بناء ديموقراطي، مثلما يقضي، في المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، على أيِّ حلم بأيَّة تنمية مستدامة. ومن ثمَّ فآثار "الفساد" كارثية بالأخص على حياة الفقراء والفئات المهمَّشة. لذا حقَّ لكوفي أنان، الأمين العام السَّابق للأمم المتحدة، أن يشير، في تصديره ل "الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمكافحة الفساد"، إلى أنه "يؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان". كما أعدَّ "المجلس الدَّولي لحقوق الإنسان" ونشر، عام 2009م، تقريراً مفصلاً حول هذا الموضوع، بعنوان: "الفساد وحقوق الإنسان: بناء الارتباط"، بغرض إدراج النهج القائم على "حقوق الإنسان"، واستخدامه في محاربة "الفساد" الذي يمثل، في حقيقة الأمر، تقويضاً للدِّيموقراطيَّة، والاقتصاد، وسيادة حكم القانون، وينعش الجريمة المنظمة، الوطنية والعابرة للوطنية على السَّواء، كالاتجار بالبشر، والاختطاف، والبغاء، وعمالة الأطفال، ويساعد على انتشار الإرهاب، وغيره من مهدِّدات الأمن، وذلك كله مِمَّا يُهدر "حقوق الإنسان" الأساسيَّة، كالحقَّ في الحياة، وفي العدل، وفي المساواة، وفي التنمية، وفي التعليم، وفي الصحة، وفي البيئة السَّليمة، وفي حريَّة الرأي، وفي حق التعبير، وفي العمل، وفي تقلد الوظائف العامَّة، وفي السَّلامة الجَّسديَّة، وفي الحماية من الاستغلال الجنسي، وما إلى ذلك. ومن أخطر أنواع "الفساد" المحاباة الحزبيَّة، والعائليَّة، والاجتماعيَّة، فضلاً عن اتباع مناهج المافيا في الخدمة العامَّة. ومن أكثر ما يهيئ مناخات استشرائه قمع الحريَّات والحقوق، خصوصاً الحريَّات الصَّحفيَّة، وحقُّ التجمُّع، والتنظيم، والحصول على المعلومات، فضلاً عن غياب الشَّفافيَّة، وانعدام المساءلة القضائيَّة لمن يتورَّطون في ارتكابه، وانعدام الحماية، دَعْ التحفيز، لمن يبادرون بكشفه، إضافة إلى ضعف آليَّات الرَّقابة على أعمال صنَّاع القرارات الإداريَّة، أو الانغماس معهم في ضروب من التواطؤ أو التآمر الجنائي!
وتتبدَّى أهمُّ نتائج الرَّبط بين "الفساد" وبين "انتهاك حقوق الإنسان" في ما يفضي إليه هذا الرَّبط من تأثير إيجابي على اتجاهات الرأي العام، حيث يزداد وعي الناس بإضرار "الفساد" بمصالحهم، ووعيهم، من ثمَّ، بضرورة دعم البرامج المصمَّمة لمكافحته، وبوسائل المطالبة بحقوقهم حال تعريضها للإهدار بسببه، عبر الآليَّات الوطنيَّة والإقليميَّة والدوليَّة كافة.
(2)
وفي السُّودان، حيث تمسك نخبة إسلامويَّة بزمام السُّلطة منذ ما يربو على ربع قرن، بلغ سيل "الفساد" الزُّبى، حتى لقد شهد شاهد من أهلها بأن "استشراء الفساد أصبح حقيقة ماثلة للعيان" (الطيِّب مصطفى؛ الجزيرة نت، 14 مايو 2014م)؛ وشهد آخر بأنه: "لم يعُد خبراً الكشف عن فضيحة فساد .. وإنَّما الخبر العثور على بريء لم تتلوَّث يداه بالحرام" (د. عبد الوهاب الأفندي؛ القدس، 1 مايو 2014م)؛ ومع ذلك ليس ما يُكشف عنه هو "الفساد" الحقيقي، لأن "الأكثر إثارة للذهول هو طريقة تعامل النظام مع هذه الكبائر، وهو تعامل لا ينمُّ، فقط، عن استخفاف بالعقول، بل، كذلك، عن انفصال تام عن الواقع، ولامبالاة بالشَّعب"، لذا فإن "الفساد" الحقيقي يكمن "في هذه الدائرة الضَّيِّقة .. التي تعتقد أنها فوق البشر، وفوق القانون، بحيث تكون دوماً فوق المساءلة" (المصدر).
وعلى كثرة ما يتم تداوله من وقائع، فثمَّة خمس قضايا باتت هي الأشهر، مؤخَّراً، وزادت نار حديث "الفساد" أواراً، من جهة عدم الجِّدِّيَّة في التعاطي القانوني معها، حيث المتَّهمون فيها من كبار رموز الدَّولة والحزب الحاكم: قضيَّة ما يُعرف ببيع خط هيثرو الذي يربط الخرطوم بلندن، ويعتبر من أقدم وأهمِّ مصادر أرباح الخطوط الجَّويَّة السُّودانيَّة؛ وقضيَّة إدخال بذور القمح الفاسدة إلى البلاد، وتوزيعها على أكبر المشاريع الزِّراعيَّة، مما أخرجها من دائرة الإنتاج؛ وقضيَّة حصول رئيس المحكمة الدُّستوريَّة، ووزير العدل السَّابق، ووكيل وزارة العدل السَّابق، على مليارات الجُّنيهات لتحكيمهم في نزاع بين شركة الأقطان الحكوميَّة وشركة خاصَّة مملوكة لأحد مسؤولي شركة الأقطان نفسها! وقضيَّة استيلاء مسؤولين بمكتب والي الخرطوم على مليارات الجُّنيهات بطرق ملتوية قبل أن تقبل جهات عدليَّة "تحللهم"، فتعفو عنهم، بعد استعادة ما اعترفوا به؛ وإلى ذلك ما نشرته جريدة "الصيحة" من وثائق تتَّهم وكيل وزارة العدل الحالي، ومدير الأراضي السَّابق، بالاستيلاء على أراضٍ سكنيَّة واستثماريَّة بخمسة ملايين دولار.
وفي تعليقه على المسألة برمتها يقول البروفيسير حسن السَّاعوري، أستاذ العلوم السِّياسيَّة بجامعة النيلين، والكادر المتخصِّص في بطن بيت الحزب الحاكم، "إن ملف الفساد وضع علامة استفهام بشأن صدقيَّة قيادة الحزب الحاكم" (الجَّزيرة نت؛ 14 مايو 2014م)
(3)
ومثلما لم يعدم "الفساد" اهتماماً دوليَّاً وإقليميَّاً واسعاً، لم يعدم، أيضاً، "قلق" بعض أعضاء النخبة الحاكمة نفسها من مغبَّة الإفراط فيه، حيث غدا مكشوفاً تتداول حكاياته الصُّحف الورقيَّة، والمواقع الإليكترونيَّة، والقنوات الفضائيَّة، وخطابات المعارضة، وحتى اعترافات بعض منسوبي النظام نفسه في غير القليل من الحالات، فما يلبث أن ينداح إلى مؤانسات المجالس وثرثرات المناسبات الاجتماعيَّة، ليبني جداراً عازلاً من عدم الثقة في مؤسَّسة الحكم، ومع ذلك قلما يصل شئ منه إلى ساحات القضاء!
ولعلَّ مِمَّا يشي بهذا "القلق"، في التحليل النهائي، صراع فريقين داخل النخبة نفسها حول موقف المجتمع الدَّولي من "الفساد"، أحدهما يَحذر خطورة التمادي في تجاهل هذا المجتمع، ويعي عاقبة العزلة عنه، وأهميَّة تحاشي الاصطدام به، فيدفع، جهد براغماتيَّته، كي لا يبادر السُّودان بإبداء ممانعته في الانضمام ب "التوقيع" و"التصديق" إلى هذه أو تلك من الاتفاقيَّات، وإن تكن في مرارة العلقم، ربَّما لكونه ينظر إلى هذه الإجراءات كمسألة شكليَّة تمنح النظام وقتاً يلتقط فيه أنفاسه، من حيث تخضع لمختلف التفسيرات لاحقاً؛ بينما يُعلي الفريق الآخر من خطورة المسألة، ربَّما لكونه ينظر إليها كأنشوطة ليس من الحكمة، ابتداءً، وضعها حول العنق، فلا يألو جهداً في الحيلولة، من الجِّهة المقابلة، دون "التوقيع"، أو، على الأقل، دون "التصديق" على ما قد يكون الفريق الأوَّل نجح في الدَّفع باتجاه "توقيعه"! ويجري هذا الصِّراع على سائر الاتفاقيَّات، عموماً، مثلما يجري على اتفاقيات "محاربة الفساد" خصوصاً، وإلا فبماذا يُفسَّر امتناع النظام عن "التصديق" على اتفاقيَّات يكون قد "وقعها" بنفسه؟!
ولا يقلل من أهميَّة هذا التساؤل عدم انطباق دلالته على بعض الحالات، ك "الاتفاقيَّة العربيَّة لمكافحة الفساد"، مثلاً، والتي أبرمت في 21 ديسمبر 2010م، ودخلت حيِّز النفاذ في 29 يونيو 2013م، حيث "وقعها" السُّودان و"صدَّق" عليها في 23 أكتوبر 2012م، فهي من الاستثناءات التي لا يُقاس عليها في مجال علاقات السُّودان الدَّوليَّة. أما القاعدة فهي مشاركة الحكومة في أعمال الكثير من المؤتمرات الدَّوليَّة والإقليميَّة، حول "الفساد" وحول غيره، و"التوقيع"، أحياناً، على مخرجاتها من مواثيق ومعاهدات واتفاقات، ثمَّ الجفول، في ما بعد، عن "التصديق" عليها، بالغاً ما بلغت أهميَّتها!
(4)
ولعلَّ من أسطع نماذج التناقض في مواقف النظام، بوجه عام، ما بين "التوقيع" والامتناع عن "التصديق"، في غير مواثيق محاربة "الفساد"، الموقف من "المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة"؛ حيث شارك بأحد أضخم وأنشط الوفود في مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي بالعاصمة الإيطاليَّة، بين 15 يونيو و17 يوليو 1998م، والذي تمخَّض عن "نظام روما" الذي أرسى الأساس القانوني لنشأة المحكمة، حيث دخلت حيَّز التنفيذ في الأوَّل من يوليو 2002م. وقد "وقع" السُّودان على "نظام روما" في 8 سبتمبر 2000م، خلال احتفالات الأمم المتحدة بالألفيَّة الثالثة، وبذا يكون قد شارك، فعليَّاً، في تأسيس المحكمة. مع ذلك ظلَّ النظام "يتلكأ" في "التصديق" على توقيعه حتى سحبه خلال الثلث الأخير من العقد الأوَّل من الألفيَّة، بعد اصطدامه العنيف بالمحكمة، متذرِّعاً بأنها محض أداة "استكبار" دوليَّة، إثر توجيهها اتهامات لبعض مسئوليه، وأهمهم رئيس الجُّمهوريَّة، بشأن "ملف دارفور" الذي أحاله إليها مجلس الأمن الدَّولي بموجب قراره/1593، الصادر في 31 مارس 2005م، تحت الفصل السَّابع من ميثاق الأمم المتحدة.
أما بالنسبة لاتفاقيَّات "مكافحة الفساد"، تحديداً، فربَّما يكفي أن نورد نموذجين بارزين لجفول النظام عن "التصديق" بعد "التوقيع"، أوَّلهما "الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمكافحة الفساد" المار ذكرها، والتي وافقت عليها الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة بقرارها/58/4، المؤرَّخ 31 أكتوبر 2003م، واعتمدها المؤتمر الدَّولي الذي انعقد بالمكسيك بين 9 11 ديسمبر من نفس السنة، ودخلت حيِّز النفاذ، في 14 ديسمبر 2005م. فعلى الرُّغم من أن السُّودان "وقع" عليها في نفس ذلك التاريخ، إلا أنه لم "يصدِّق" على "توقيعه" حتى الآن! وأما النموذج الثاني فهو "الاتفاقيَّة الأفريقيَّة لمنع الفساد ومكافحته"، والتي اعتُمدت في 11 يوليو 2003م، ضمن الدَّورة العاديَّة الثانية لمؤتمر الاتحاد الأفريقي، ودخلت حيِّز النفاذ في 5 أغسطس 2006م، وانضمَّ السُّودان إليها، أيضاً، ب "التوقيع" في 3 يونيو 2008م، لكنه، أيضاً، لم "يصدِّق" على ذلك "التوقيع" حتى الآن!
(5)
تجلى القلق الدَّولي من استشراء "الفساد" في قرار الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة رقم/55/61، الصَّادر في 4 ديسمبر 2000م، والذي طلبت فيه من الأمين العام تنظيم فريق من الخبراء لإعداد مشروع نطاق الاختصاص للتفاوض حول الإطار القانوني لمكافحة "الفساد"، وإنشاء لجنة لذلك التفاوض تبدأ أعمالها فور اعتماد مشروع الخبراء، حيث وُصف "الفساد"، في فاتحة ذلك القرار، بأنه هادم للديمقراطية، وللتنمية، وللاقتصاد، ولسيادة حكم القانون. ثمَّ عادت الجَّمعيَّة العامَّة لتعبِّر، بعد زهاء العام، عن قلقها من تهديد "الفساد" لاستقرار المجتمعات، ولأمنها، وللأخلاق، وللقيم الديمقراطية، وللتطور الاجتماعي والاقتصادي والسِّياسي، وذلك في قرارها رقم/56/260، الصادر في 31 يناير 2002م، والذي كلفت، بموجبه، اللجنة المذكورة بالتفاوض حول اتفاقية واسعة النطاق لمكافحة "الفساد"، ريثما تحدِّد اللجنة عنوانها النهائي لاحقاً. ثمَّ تجلى هذا القلق الدَّولي، أيضاً، في الحرص على اتخاذ جملة إجراءات متلاحقة باتجاه إصدار الوثيقة التي أطلقت عليها اللجنة اسم "الاتفاقيَّة الدَّوليَّة لمكافحة الفساد"، حيث عُقد الاجتماع التحضيري غير الرسمي للجنة، ببونس إيرس بالأرجنتين، خلال الفترة من 4 إلى 7 ديسمبر 2001م. وبعد أن اعتمدت الجمعية العامة الاتفاقيَّة، أجرت مراسم التوقيع عليها في مؤتمر رفيع المستوى بميريدا بالمكسيك، خلال الفترة من 9 إلى 11 ديسمبر 2003م، وقررت تسمية يوم 9 ديسمبر يوماً دولياً لمكافحة "الفساد".
تبيح الاتفاقيَّة للدولة المنهوبة ملاحقة ناهبيها في أيَّة دولة من الدول الأطراف التي بلغ عددها حتَّى مايو الماضي 171 دولة من جملة 193 دولة عضواً بالأمم المتحدة. فحتَّي لو استطاعوا الهرب إلى تلك الدَّولة، والحصول علي جنسيتها، سيكون من حقها، بعد تغيُّر نظام الحكم فيها بطبيعة الحال، استعادتهم، ومحاكمتهم، واسترداد أموالها منهم. وتلزم الاتفاقيَّة الدُّول الأعضاء بأن تتيح للأفراد والهيئات حقَّ الإبلاغ عن حالات "الفساد" لأجهزة رقابة مستقلة تتحرَّى فيها، مع منح المبلغين حصانة قضائيَّة إلى أن تنتهي التحرِّيات، ويتمَّ الإعلان عن نتائجها كافة، كتحقيق لحالة ردع عامَّة. وإلى ذلك تنصُّ الاتفاقيَّة علي واجب أعضائها في ضمان حريَّة تداول المعلومات حول "الفساد"، وتوفير وحماية حريَّة النشر، إضافة إلى حصانات الصَّحفيين.
وفي التصدير المار ذكره شدَّد كوفي أنان على أن هذه الاتفاقيَّة عبارة عن رسالة للفاسدين بأن "المجتمع الدَّولي" مصمِّم على كبح "الفساد"، حيث لن يتسامح مع خيانة الثقة العامَّة بعد الآن، مشيراً إلى الأحكام الخاصَّة بالتعاون الدَّولي، وباسترداد عائدات "الفساد"، ومؤكداً على أن من شأن ذلك تضييق سبل الفاسدين لإخفاء مكاسبهم غير المشروعة، مِمَّا ستجني فوائده، بوجه خاص، البلدان النامية التي يكون كبار مسؤوليها قد نهبوا ثرواتها الوطنيَّة.
...…………………………
...…………………………
وإذن، فحتَّام يتغافل فاسدو السُّودان عن هذه الإشارات القويَّة، متوهَّمين النجاة، إلى الأبد، من المصير الذي رسمته آليَّات التعاون الدَّولي؟! وحتَّام يكذبون على أنفسهم بأن "المجتمع الدَّولي" محض خرافة، كما الغول والعنقاء والخل الوفي؟! وحتَّام يصمُّون آذانهم عن الأجراس التي ما انفكَّ يقرعها حتَّى بعض منسوبيهم، ككاتبهم الطيب مصطفى الذي حذَّر الحزب الحاكم من مغبة الإصرار على "الاستمرار دون بتر أيادي المتَّهمين بالفساد واستغلال النفوذ"، متوقعاً له أن يواجه تحدِّيات جدِّيَّة في إقناع المواطنين بأحقيَّته بالحكم "بعدما اتضح أن الفساد المالي والإداري في الدَّولة أكبر مِمَّا يتصوَّر الناس؟!" (الجزيرة نت؛ 14 مايو 2014م).
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.