الجبهة الثورية : الهامش الذي أصبح مركز الجذب ! فضيلي جماع من يقرأ التاريخ يعرف كيف يعمل ناموس هذا الكون. والتاريخ – وهو محصلة أفكار وأعمال الجنس البشري- يسير بمعادلات ونظم تشبه بعضها وإن اختلف المكان والزمان. ودون إطالة في المقدمات دعونا ننظر إلى كراسة تاريخ نضال الشعوب في الأمس القريب- أوائل الخمسينات حتى النصف الثاني للستينات من القرن الماضي..وبتحديد أدق مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار في ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. كان العالم وقتها مرجلاً يغلي ، وكانت الشعوب تناضل من أجل تأكيد هويتها واستقلالها الوطني والتمتع بثرواتها التي ظل المستعمر الأوروبي ينهبها عبر البحار. ليس الثروة وحدها، بل إن تلك الشعوب كانت تناضل من أجل بسط ثقافتها الوطنية بدلاً من هيمنة ثقافة المستعمر. لذا كانت الثورة أنشودة كل حر.. فتردد في أسماعنا عبر المذياع وعبر هتافات الجماهير الهادرة – ونحن صبية- أسماء قادة من أمثال: المهاتما غاندي ، جومو كنياتا – الرمح الملتهب في صدر الاستعمار، باتريس لوممبا، كوامي نكروما ، جمال عبد الناصر ، جواهر لال نهرو، احمد سوكارنو، احمد بن بيلا، جميلة بوحيرد ، أرنيستو تشي جيفارا، المعلم جوليوس نايريري وعشرات من الرجال والنساء الذين كانوا بمثابة الأهازيج التي يرددها الناس في غدوهم ورواحهم. كانت تلك الثورات هي البداية لثورات عصرنا المرتبطة قلباً وقالباً بحركة الجماهير. ولأن أرياف العالم تمثل الحاضن الأكبر للشعوب فقد كانت ثورات الماوماو في كينيا وثورة الجزائر وثورة المؤتمر الوطني في جنوب افريقيا بقيادة أشهر مناضل في عصرنا – نيلسون مانديلا من سجنه في جزيرة روبن آيلاند- والثورة الهندية بقيادة غاندي ونهرو وجناح وغيرها – كانت هذه الثورات قد جعلت من شعوبها الحاضن الرئيسي لها ، لذا كتب لها النجاح. واليوم خرج عندنا من رحم الفجيعة في السودان لهب الثورة بمفهومها التاريخي الديالكتيكي. وفقه الثورات علم وتكنيك قبل أن يكون انقلابات عسكر أو تهريج سياسيين غابت عن مخيلتهم حركة الجماهير. ومنذ بداية ثمانينات القرن المنصرم ظل الثائر السوداني جون قرنق دي مابيور يعيد على جنوده في الغابة ويكرر على أسماع من يلتقيهم من الجماهير مقولة "تحرير السودان" ! كان الكثيرون – ومنهم سياسيون هم قادة روليت السياسة السودانية- يتهكمون من الفتي القادم من بور في جنوب السودان والذي ينادي دون هوادة بتحرير السودان من مفاهيم ظلت لعقود راسخة وظل مردودها سالباً. كانوا يضحكون على أنفسهم ويحاولون خداع شعوبهم – ومعظم أولئك من الشمال الجغرافي – العروبي الثقافة والذي ما كان – بل ما زال البعض فيه– يرى من الاستحالة أن يقود البلاد من هو سحنة وديناً من غير ملتهم وثقافتهم. كان السودان ولما يزل ما تبقى منه (شعوباً وقبائل) تسعى للإلفة ولتصنع وطناً. قضى جون قرنق في ذلك الحادث التراجيدي، مخلفاً حيرة في أذهان الملايين التي سكن قلوبها- فنحن أمة سيئة البخت! مضى قرنق وأنشطر السودان إلى شطرين ، كلاهما يحارب نفسه حتى كتابة هذه السطور. لكن الأفكار الإنسانية الخالدة لا .إن فكرة قرنق في العتق من ماضينا والتمسك بوطن يسع الجميع – وطن تكون فيه المواطنة – أي تساوي الكل في واجباتهم تجاه الوطن وما يستحقونه من عطاء ظلت باقية. خلاصتها العيش في بلد يحترم العقد الاجتماعي الذي تعارفت عليه الشعوب بمسمى "وطن" : لا امتياز لمواطن على آخر في اللون أو القبيل أو المعتقد أو الجهة التي أقبل منها أياً كانت. وفكرة السودان الجديد لم تأت من فراغ- هي في الواقع محصلة نضال ثورات الشعوب من قبلنا والتي أرست دساتير تقوم على كفالة حقوق مواطنيها والسعي للتساوي بينها في اقتسام السلطة والثروة وفي احترام المكون الثقافي لشعوبها والسعي ما أمكن لتوليف تلك الثقافات لمحاولة صهرها في ثقافة جامعة عن طريق حوار حضاري – بعيداً عن التنطع الأيديولوجي الديني الذي قسم البلاد وأعاد الناس إلى مجتمعات ترعرعت القبيلة فيها حتى في قلب عاصمة البلاد التي يرجى أن تكون عامرة بمناخ أكثر عافية ووعياً ! وحين نقول بأن الجبهة الثورية جاءت بهامش السودان العريض ليكون بؤرة الصراع فإننا لا ننطلق من أمنيات أو شطحات خيال. الجبهة الثورية هي المد الشرعي والمنطقي لحركة التاريخ وتحديدا لثورة الماوماو في كينيا وحركة المؤتمر الوطني في جنوب افريقيا وثورة جون قرن دي مابيور ومناداته بوطن يتسع لساكنيه ويقبلهم كمواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات. لم يحارب ثوار دارفور بكل تشكيلاتهم لشهوة سكان ذلك الإقليم الضخم المسالمين والطيبين في الموت والاقتتال. حاربوا لأن الآخر رفض قبولهم متساوين معه في الحقوق.. وكذلك الحال مع ثورات شعوب جبال النوبة والأنقسنا وشرق السودان وثورات المناصير في الشمال. جمع طرح الجبهة الثورية كل هذه المجموعات عبر نضالها في كتلة واحدة تمثل أكبر تعداد لمواطني ما تبقى من السودان وأكثر أقاليمه خصوبة وثروة... وأكثرها فقراً وفاقة ومرتعاً للجهل والمرض. واليوم حق لنا أن نردد مقولة (لا يصح إلا الصحيح)! عرف ثوار الهامش أن النظام الفاشي في الخرطوم يعرف لغة واحدة لا غير – لغة قعقعة السلاح! وبعد أن أكدت تفوقها في الميدان وكشفت عورة نظام الاسلامويين في الخرطوم وضعفه لم ترفض نداء الحوار – بشرط أن يكون حواراً جامعاً لا يقصي أحداً .. بمعنى آخر أن ينتهي البيع بالقطاعي في سوق المراوغة التي قصد النظام الفاشي أن يطيل بها بقاءه في السلطة ونهب ثروات البلاد بلا حياء وأن يفضي الحوار إلى تفكيك هذا القبح المسمى نظاماً وتقوم مرحلة انتقالية تفضي بسلمية إلى فجر الحرية والديمقراطية وخيار شعوب السودان وحلمها. وقد فعل الإمام الصادق المهدي زعيم أكبر حزب سياسي في البلاد – فعل خيراً لنفسه ولحزبه ولوطنه – حين وقع مع إخوته في الجبهة الثورية إعلان باريس الذي خلط كل حسابات النظام الحاكم في الخرطوم. ليس ذلك فحسب بل يحسب للصادق المهدي جهده المقدر هذه الأيام في الخروج بإعلان باريس من حبر الورق إلى الواقع العملي – مستغلاً خبرته وعلاقاته السياسية كشخصية بارزة على نطاق المعطى السياسي المحلي والدولي للترويح لهذا الإعلان الذي يعتبر اختراقاً حقيقياً في لعبة السياسة السودانية التي شلها الإحباط والركود. ويكفي إعلان باريس أن الطيف السياسي السوداني – باستثناء الاسلامويين وأحزاب الفكة- تنادوا ومعهم منظمات وناشطو المجتمع المدني والشباب لتأييده ونصرته فأصبح بذلك حقاً سودانياً تملكه شعوب السودان كسلاح سياسي فعال تقتلع به جذور الباطل الحنبريت الذي ما فتيء يمتص دماء أمتنا ويمطر شعوبها بوابل الرصاص ويجلد حرائرها أو يودعهن السجون. تبت أياديكم الملطخة بدماء شعبنا ! همسة أخيرة لقادة وجنود وعضوية الجبهة الثورية ومناصريها – وهم بالملايين: لقد صار الهامش اليوم مركز الجذب كما ينبغي لأي ثورة شعبية يكتب لها النجاح بعون الله. وأود أن أرفع التمام مرة أخرى لأصدقائي في قيادة الجبهة الثورية (كصديق يتشرف بصداقتهم) : مالك عقار، ياسر عرمان، الدكتور جبريل ابراهيم ، مني اركو مناوي ، عبد الواحد محمد نور ، نصر الدين الهادي المهدي ، التوم هجو.. والمقاتل الفذ عبد العزيز آدم الحلو .. مرة أخرى : كله تمام يا فندم !