بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليلة شعرية في حب الوطن : البكاء على الاطلال
نشر في حريات يوم 05 - 01 - 2015

جاء الاحتفال بعيد الاستقلال 58 هذا العام مختلفاً. فمنذ عام 2012 وتزامن التحركات الواسعة لما عرف في تاريخ السودان بجمعة لحس الكوع في يونيو – يوليو 2012 والغيت احتفالات عيد الانقاذ في يونيو من كل عام. وظل هذا ديدنها منذ ذاك. هذا العام كان محاولة مستميتة للانتقال من ارث الانقاذ إلى الارث الوطني ممثلاً في الاستقلال. مياه كثيرة جرت تحت الجسر من "حركة اسلامية" صلبة وموحدة، بطموحات امبراطورية وتمكن كامل من الدولة، إلى تضعضع الحركة، انقساماتها العديدة، فشل مشروعها بالكامل وغياب معظم قادتها من الساحة.
المشهد كان لافتاً، تم التغاضي والتساهل بشكل كبير بالتجمعات الشبابية في احتفالات راس السنة الميلادية، غير بعض تصريحات الشيوخ والائمة سواء في الاعلام او صلاة الجمعة الفائتة. التركيز الاقل على احتفالات المولد النبوي الشريف واعطاء مساحة حرية اكبر لها ومنع أي تحركات من انصار السنة وعدم السماح بها. بل شاركت مؤسسات غير صوفية بها من المجمعات الفقهية ومؤسسات دينية. نصف مليون شخص احتفلوا في بورتسودان براس السنة في اجواء مسترخية.
ظاهرة لاحظها عماد عبد الهادي-الخرطوم على الجزيرة نت " تزاحم احتفالات "رأس السنة" بالسودان ذكرى استقلال البلاد فقط، لكنها طغت عليها خصوصا وأن تلك الذكرى الوطنية بدت باهتة لاسيما لدى أجيال جديدة لم تواكبها ولو حتى بالقراءة في مقررات التاريخ بالمدارس التي لم تسلم من الانتقاد…بدأت أجيال لاحقة التخلي عن تلك المناسبة للاحتفال برأس السنة الميلادية لأسباب مختلفة". وراى أحمد عادل الريح (موظف) إلى عدم وجود "برامج رسمية جاذبة للاحتفال بعيد الاستقلال، واختصار الاحتفالات الرسمية بالقصر الجمهوري وبعض المظاهر الضعيفة المملة في بعض المواقع الحكومية الخاصة". الطالب الجامعي عثمان حسن عثمان فيقول إن الاحتفالات الرسمية بعيد الاستقلال "ظلت تنفر الناس عن هذه المناسبة"، ويعتبر أن "المعاناة التي يعيشها الشباب بسبب سياسات الحكومات الوطنية دفعت غالبهم للتفكير في الاستقلال بشكل مختلف عن تفكير آبائهم أو أجدادهم".
بدأت احتفالات عيد الاستقلال بخطاب لافت للسيد رئيس الجمهورية، هاديء ومن المكتوب عكس كل الخطابات بدون خروج على النص ولهجة تصالحية واضحة "إن الاستقلال..مبعث افتخار لجميع السودانيين ..إن على الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية، تحمل مسؤولياتها التاريخية، وأن تجعل المصالح العليا للوطن، فوق كل اعتبار…لقد حققنا على مر السنوات المنصرمة قفزات نوعية، في الممارسة السياسية، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وشهدت بلادنا تحقيق الكثير من المنجزات… وقد شارفت اللجنة العليا لبرنامج إصلاح الدولة .. لمسائل الاقتصاد وإصلاح الخدمة المدنية، وتطوير القوانين والتشريعات وتقوية التماسك الاجتماعي، وإعادة تقييم السياسة الخارجية…إن السلام هدف ومبدأ أصيل من المبادئ التي توجه سياستنا الداخلية والخارجية".
كل الولايات نظمت احتفالات رفعت فيها رايات الثوابت الوطنية، تصدرها ما نظمته ولاية الخرطوم بالمشاركة مع القوات النظامية ومركز الخرطوم للإعلام الالكتروني تضمن مسيرة أطول علم في العالم بشارع النيل. دعيت للاحتفال كافة الاحزاب وقد رفضها الحزب الشيوعي برد قاس وحاسم، نال استحسان الكثيرين من الذين يصطفون في الضفة الاخرى من نهر الوطن. وهكذا مقروءاً معاً هجر عيد الانقاذ لثلاث سنوات متتالية، محاولة تسويق الدولة الجامعة وصلنا لمشهد جديد في الحياة السياسية السودانية.
شعر السودان
السودان بلد الشعراء، كل ثقافاته المتنوعة لديها شعرائها ويشكل هذا النوع الملقى والمغنى رصداً متنوعاً لتفاصيل حياتهم اليومية، يحمل تأريخهم، يعظم صفاتهم و يسجل ايامهم المجيدة. تم تقديم بعض شعر الحماسة الخاص ببعض القبائل في عصر البطولة، باعتبارها اكتمال الصفات السودانية ومرجعيتها في اعتماد ما اسمي "التقاليد والاخلاق السودانية". وقد برزت قصائد اعتبرت من عيون شعر الحماسة من مثل مرثيه بنونه بنت المك لشقيقها عماره ود المك "ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص".
ان وردن بجيك في اول الواردات
مرنأ مو نشيط ان قبلن شاردات
اسد بيشه المكربت قمازاتو متطابقات
وبرضع في ضرايع العنز الفارزات
* * * *
يابقه عقود السم
يامقنع بنات جعل العزاز من جم
الخيل عركسن ماقال عدادن كم
فرتاك حافلن ملاي سروجن دم
المثال الاخر كانت شغبة المرغمابية الكاهلية، واسمها (آمنة)، واشتهرت بلقب (شَغَبَة) تعتبر من الرواد الأوائل لشعر الدوبيت في السودان وقد عاشت في عهد السلطنة الزرقاء خلال القرن السادس عشر الميلادي. اشتهرت شغبة بشعر الحماسة والفخر، وكانت تشارك في حروب قومها ضد بقية القبائل. في معركة أصيب فيها نائل ابن شغبة، زوجها الفارس (ود دقلش) عبرت
كُرْ يَا نَوحْ مِنْ دَا الخَرَابْ
عَجَبْ عَيني ياكلَنْ فِي الكِلاَبْ
ود دَقْلَشْ مَيَّحْ مِنْ الرِكَابْ
أَخير دِي مِن قَولةْ جَفلوا المُرغُمَابْ
ولكن اشتهر اكثر تحريضها ابنها على هجر العلم وخوض الحرب، وكان ابنها حسين قد انشغل بدراسة القرآن الكريم والاهتمام بألواحه القرآنية، وجمع المال عن المعارك التي تدور رحاها بين القبيلة وأعدائها.
متين يا حسين اشوف سيفك معلق
لا حسين كتل لا حسين مفلق
لا حسين ركب الفى شايتو علق
قاعد للزكاة ولقيط المحلق؟؟
للتعبير عن محتلف القيم السلوكية والاخلاقية استعملت اوصاف معينة من البيئة المحيطة من "دود الوعر" ، اسد بيشه، ادابي الجبال، تور بقر الجواميس، أسد الخلا ، تمساح الضهاري، العشاري، اللدر، عقد الحديد للحلبي ما بتنفك، بحر الكحل أو جبل الكحل، حجر اليويات وغيرها. وقد استعمل يوسف مصطفى التني في اشهر قصائد المقاومة ضد الاستعمار " في الفؤاد ترعاه العناية"، احد هذه التعبيرات
مرفعينين ضبلان وهازل
شقوا بطن الأسد المنازل
نبقى وحدة كفانا المهازل
نبقى درقة لوطني العزيز
ارتكزت اغلب اغاني الفخر والحماسة على هذه المرجعيات وسوف تستمر في فعلها حتى الان. وعندما غنى الشعراء للوطن قبل وبعد الاستعمار كانت تركز بشكل كبير على مفاهيم عامة ومعاني نمطية، لكن خليل فرح هو من نقلها لمستوى مختلف "عزه في هواك … عزه نحن الجبال…عزه ما سليت وطن الجمال….نتشابي للنجوم و أنا ضافر الهلال…عزه شفتي كيف نهض العيال….جددوا القديم تركوا الخيال". اطل جيل جديد كان الوطن مختلفاً عندهم، وينظر لقيمه وسلوكه من منحي آخر من عبدالواحد عبدالله "اليومَ نرفُع راية إستقلالنا … ويسطِّرُ التاريخ ُ مولدَ شعبنا"، الأستاذ محمد عثمان عبدالرحيم "أنا سوداني أنا" وغيرهم.
اكتوبر 1964 كانت المنحني الاكبر في غناء الحماسة والفخر الوطني، فقد افرزت مجموعة من الشعراء سوف يغيرون كل المعايير مرة وإلى الابد. في مقدمتهم كان هاشم صديق الذي عاد من مفاهيم الشعر الموروث "لما الليل الظالم طول…..وفجر النور من عينا اتحول…..قلنا نعيد الماضي الأول…. ماضي جدودنا الهزموا الباغي…..وهدوا قلاع الظلم الطاغي"، محمد المكي ابراهيم وعبر مفهوم الغابة والصحراء رجع لتراث مختلف "كان أكتوبرَ في غضبتنا الأولي مع المك النمر…كان أسياف العُشر ومع الماظ البطل". ومن الوطن العام والاخلاق الفاضلة المجردة، وضع منظوراً مختلفاً تماماً "إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي….وبأبناء بلادي الشرفاء الذين اقتحموا النار وكانوا بيد الشعب مشاعل….وبأبناء بلادي البسطاء الذين انتفضوا في ساحة المجد فزدنا عددا…..وبأبناء بلادي الشهداء الذين احتقروا الموت وعاشوا أبدا" . وسوف يواصلها علي عبد القيوم "اي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها….اي الاناشيد السماويات لم نشدد لاعراس الجديد بشاشة اوتارها".
سوف يلتقط احد عبقريات الشعر السوداني هذه الرؤية ويصل بها لزري المجد، محجوب شريف. من بين ثنايا التغني بالوطن المجرد والمرجعيات الموروثة في تحديد القيم السودانية، خط طريقاً جديداً سار عبره في الغوص عميقاً في هموم البشر العاديين، الذين هم ابطال على طريقتهم الخاصة. بدلاً من جز الرؤوس، عقود السم والتغني بالموت وضع محجوب لبنات قيم الخير والجمال، العدالة والمساواه واهم منها جميعاً السلام. كان هذا مبرر اختياره ضمن (12) شخصية نضالية حول العالم التي تُعرض حالياً بمتحف سجن الكتراز الأمريكي (في جزيرة امام سان فرانسيسكو)، وهو متحف يعنى بالفن، ومشاركته بقصيدة عصفور الحنين.
الشعر والانقاذ
عندما امتطت الانقاذ دباباتها وحطت على ارض الوطن، كانت تأتي من احد القضايا المهمة والمثيرة للجدل والاختلاف، العزلة الشعورية التي شكلت جزءاً من التربية الحزبية في كافة تنظيمات الإخوان المسلمين: من تكفير المسلم الذي لا ينتظم مع الجماعة، حرمة العمل في مؤسسات الدولة، وجوب العزلة الحسية المادية لأفراد الجماعة عن المجتمع وترك المساجد التي يصلي فيها عامة المسلمين؛ لأنها مساجد ضرار… إلخ.
كغيرها من الانقلابات جاءت تحدوها المطامح الكبيرة والاحلام العريضة. كان هذا يحتاج للتعامل مع متطلبات الدولة وادارتها، جزء مهم من هذا كان الشعر الحماسي والذي سوف يكون مع انشطة اخرى قيم المجتمع الجديد. في البدء جاءوا باهازيج التنظيم من "أمريكا روسيا قد دنا عذابها" و "ويا أمريكا لمي جدادك" واضرابها. كانت هذه تنجح في تعبئة اعضاء تنظيم محكم السيطرة عليه، يخضع افراده لانواع من الرقابة والتحكم.
دخل الساحة بعض الشباب المتحمس وعبروا عن تللك الفترة وقد اشتهر منهم محمد عبد الحليم، صاحب اشهر اناشيد الانقاذ " شعارنا العالي بيرفع .. والعالم كلو بيسمع .. فلنأكل مما نزرع ولنلبس مما نصنع .. لي جنة نضيرة نحول .. الأرض البور البلقع .. وبالطاقة القصوى الكامنة .. حنلف ماكينات المصنع". ورغم الامال التنموية التي عبرت عنها الاغاني، فقد كانت النية في تحويل الحرب الاهلية لحرب دينية سوف تجعل من الشعار العالي مجرد اضغاث احلام.
هذا التوجه دفع إلى الساحة جلالة "انا ماشي نيالا"، وهو ضرب من الحماسيات التي ارتبطت بعسكرات تدريب الجيش. واسم الجلالة مأخوذ اصلاً من الطرق الصوفية التي اقامت حلقات الذكر لنشر الدعوة الاسلامية، وارتبطت بالانصار والختمية. جلالة نيالا تم تاليفها عام 1989م، بواسطة جنود اللواء الخامس بفتاشة ارض اعنف التدريبات التي يتلقاها الجندي، وتقول في جزء منها:
انا ماشي نيالا يا هوي هوي
عاجبني جمالا سمبلا
يومنا ما جا يومنا ما جا
السونكي ركب هي ها
وسوف تفيض على الساحة قصائد وحماسيات "في ساحات الفدا" عنواناً للمرحلة.
فيضان الفكر المتشدد الذي صاحب تلك المرحلة، دفع إلى الساحة بشعر كان متجذراً بعمق في الوجدان السوداني، وكان له موقعه المميز ي وسط المجموعات السكانية في وسط السودان، الجزيرة وكردفان، المديح النبوي. رغم تواجد المداحين في السودان منذ قرون عديدة، إلا أن بروزه في الحياه الاجتماعية والفنية السودانية، ارتبط بالشيخ عبد الرحيم البرعي. كان الشيخ البرعي مرتبطا بحركة الإصلاح الاجتماعي، وبفضل مجهوداته تحولت "الزريبة" من قرية صغيرة ليس بها أي نوع من الخدمات، إلى مدينة صغيرة تجمع كل الخدمات الضرورية للإنسان من تعليم، ومستشفى، وعدد من آبار المياه الجوفية، كما أقام بها مصنعًا للزيوت النباتية.
جاءت قصائد الشيخ البرعي، والتي عمل على تلحينها والمشاركة في غنائها، تخاطب عبر التعبير عن حب الرسول، قضايا حياتية ومشاكل اجتماعية والدعوة للقيم النبيلة. تجاوز اثر الشيخ من مجرد مدائح لتأسيس تيار شعري جديد، دفعت كل الفنانين لممارسته "حتى الكابلي ووردى"، كما دفعت بفنانين عديدين للتخصص في هذا الفن، وقامت فرق المديح.
شعر الضفة الاخرى
منذ اليوم الاول لانقلاب الانقاذ، دخل الشعر معركة المعارضة ومع اصوات محجوب شريف، هاشم صديق، محمد المكي ابراهيم وغيرهم، سوف يقود هذه المرحلة شاعرين من طراز متنوع ومختلف، محمد طه القدال الذي يتكيء على تراث البادية والمسادير ويعمل بالرمز والصور الفنية المحتشدة، ومحمد الحسن حميد الآتي من تراث الشايقية. لكن من سوف يحدد مآلات الاصوات الشابة القادمة كانت حنجرة احد اهم الفنانين السودانيين، مصطفى سيد احمد. ومن الحان مصطفي وعبر حنجرته جاء "عبد القادر الكتيابي، يحي فضل الله، خطاب حسن احمد، الفرجوني، صلاح حاج سعيد، قاسم ابو زيد، الصادق الرضي، محمد المهدي عبد الوهاب، عاطف خيري وغيرهم".
سوف تستمر هذه الفترة حتى اتفاق نيفاشا حيث جلس قرقاء الوطن في مجلس وطني واحد وتقاسموا وظائف الحكومة، ورغم أن السودانيين لم يحسوا بفروق جوهرية في حياتهم، لكن فترت الاشعار وقلت الحماسة وساد الساحة اغنيات ما بعد الاستقلال وبعض الاكتوبريات في المناسبات العامة, هذه المرحلة سوف يكتب سمفونيتها النهائية محجوب شريف في قصيدته الوداعية مرت الاشجار"مرت الأشجار كالخيال أحلام.....ناس لطاف وظراف مابين غزال وزراف....مابين ظلال وغمام".
ليلة شعر في حب الوطن
في هذه الاجواء جاءت احتفالية الشعر بمناسبة عيد الاستقلال في قاعة فاخرة في مبنى قاعة الصداقة، مزينة بشكل لافت وجميل، كراسي وثيرة وتنظيم جيد. شارك في الليلة الشعرية عدد من الشعراء من سلطنة عمان، مصر، بجانب شعراء السودان. كان اللافت في الحضور أن اغلبهم من الشباب.
نظمت الحفل وقدمت له الاستاذة روضه الحاج، احد اقوى المواهب الشعرية السودانية المعاصرة، وصاحبة صوت متميز، وهي احدى المعبرات عن الثقافة العربواسلامية بامتياز. وقد عبرت عن انتمائها في لقاء مع صحيفة "اليوم التالي"، 26 سبتمبر 2013 : "كانت ميولي إسلامية، رُغم أنّ جزءاً من أهل والدتي ختميّة، وجزءاً من أهل والدي أنصار، وبالأسرة عدد من اليساريين وأنا ميولي إسلامية". هذه الميول سوف تقودها للانخرط في دعم الانقاذ، والغناء للدبابين وسبباً للاختلافات الحادة يين مريديها ومن ينتقدونها بعنف قاسي.
يجيء احتفال الاستقلال هذا العام وقد توزع السودان لدولتين، الحركة الاسلامية قد خبا نارها، قبر مشروعها الحضاري وانقسمت على نفسها بدل المرة مرتين. الارث الذي قامت عليها حروبها الجهادية قد هجرها قادتها وتمترس دبابوها في "سائحون"، واعاد معارضوها التجمع تحت لواء "نداء السودان". في هذا المشهد تبارى شعراء عده في اعادة تشبيك الانقاذ بخيوط بالمشروع الوطني الجامع. كان افضل ما يمكن فعله العودة لقيم العصر البطولي، الفروسية، الشجاعة، الكرم وغيرها، الحديث عن وطن افتراضي وقيم شبحية في عصر تسيد قيم سوء الادارة، الفساد، الحروب الاهلية في ارجاء الوطن من جهة، واحلام قيم الخير، الحرية، السلام والعدالة من جهة اخرى.
يبدو أن الفجوة بين التيار الاسلامي الانقاذي والتيارات الاخرى كبير جداً، وشعرائها رغم قدراتهم الشعرية والتمرد الكامن في دواخلهم كمبدعين في حيرة من امرهم، تنازعهم روح الاشباح الماضية والاطروحات القديمة والواقع الذي يلامسونه عندما يخرجون من القاعة الجميلة. لقد بدا شعراء تلك الليلة مثل طرفة بن العبد "لِخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِ، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد"، إلا أن اطلالهم كانت القيم التي توحد السودانيين.
خاطب الشاعر كامل عبد الماجد، بابيات شعرية قليله، السيد نائب رئيس الجمهورية بما اعتبر أنه كان معادلاً موضوعياً لليلة الشعرية، كانت هذه الرباعية عنوان المرحلة القادمة.
بدلو النار بالندى بالمحبة والرضا
وامشوا في درب السلام امضوا لاخر مدى
ومن ركام الحرب هبوا ام ناهضه موحده


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.