عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام (1)
نشر في حريات يوم 06 - 07 - 2015


مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
كمال الجزولي
الإهداء:
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي
عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِى)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
"الخَيرُ فى ما اختارَ الله .. إلاَّ نصرَة مَا فِي"!
الأمير إبراهيم الخليل في اجتماع قادة التَّشكيلات عشيَّة كرري
"كانوا أشجع من مشى على الأرض،
دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"!
تشرشل في دفتر المراسل الحربي
"عَشَرةُ ألفِ شَهيدٍ وسِتَّةُ عَشرِ ألف جَريح تَنَاثَرُوا،
شَظَايَا مِن اللَّحْمِ والعَظْمِ المُفتَّتِ، عَلى طَريقِ الصَّلَفِ
الزَّاحِفِ مِن وَرَاءِ البِحَارِ باسْمِ المَدَنِيَّة والإِنسَانِيَّةِ،
بَلْ وبِاسْمِ اللهِ نَفْسِهِ"!
(1)
لست من أدعياء النُّبوءات لأزعم أنني، عندما فرغت من الصِّياغة الأولى لهذا المبحث، فجر الأحد 16 أغسطس 1998م، بين يدى مئويَّة كرري (2 سبتمبر 1898م 2 سبتمبر 1998م)، كنت قد نجَّمت، ورميت الودع، وقرأت الطالع، واستيقنت من أن عدواناً سوف يقع بصواريخ "الكروز" على "مصنع الشِّفاء" بالخرطوم بحري، في تمام السَّابعة والنصف من مساء الخميس 20 أغسطس 1998م! بل حتَّى الرَّعد والقصف تشابها علىَّ، للوهلة الأولى، فلم أميِّز بين هزيم وهزيم، ولا بلغت احتمالاتي الغافلة أبعد من هطول المطر في ساعة متأخِّرة من تلك الليلة! غير أن دوىَّ القصف ما لبث أن تميَّز وسط رعود لاهثة الإرزام، وتحت سماء متلاصفة الوميض. أما الكهرباء التي تبكيها، أصلاً، لمسة الرِّيشة، فقد تذبذب تيَّارها، هنيهة، ثمَّ ذوى، هنيهة، ثمَّ انقطع. ولمَّا عاد كانت كلُّ أجهزة الإعلام العالميَّة تبثُّ، بجميع اللغات الحيَّة، أن الرَّئيس الأمريكي بيلْ كلنتون قطع، فجأة، عطلته، وطار من منتجعه الرِّيفي النَّاعم إلى بيته الأبيض المتجهِّم، ليعلن، على رؤوس الأشهاد، أنه قد فرغ، للتوِّ، من تدمير مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماويَّة في السُّودان، فتأمَّل!
دهشت، لا للخبر في حدِّ ذاته، فتلك أمور فقدت قدرتها على الإدهاش في عالم اختفى المكافئ لكفَّته الثَّقيلة، فاختلَّ ميزانه، وخيَّم عليه ظلام القطبيَّة الأحاديَّة، وإنَّما دهشت للتَّوقيت. فقد بدا لي العدوان احتفالاً آخر بالذكرى المئويَّة لكرري، لكن .. على الطريقة الإستعماريَّة! ولئن كانت التَّذكرة واستدعاء الدُّروس والعِبَر هي بعض أغراض الاحتفالات عموماً، فإن غرض ذلك الاحتفال كان تذكيرنا، على وجه الخصوص، بأن الشَّجاعة والجُّبن شىء، وأن النَّصر والهزيمة شىء آخر! وأننا نزحف، بهذا المعنى، لا نزال، في المربع الأوَّل لهزيمتنا، لم ننس شيئاً، ولم نتعلم شيئاً! وأنه لا يغيِّر من هذه الحقيقة، قليلاً أو كثيراً، كون تلك الهزيمة نفسها موشَّاة، للعجب، بآيات الشَّجاعة والإقدام! فلو أن الشَّجاعة وحدها تضمن النَّصر لكان ذلك قد تحقَّق، وأيْمُ الله، لأجدادنا الأماجد في كرري، ولما كان الآخر يرتع، ما يزال، في بحبوحة نصره المؤزَّر المدعوم بتفوقه الحضاري، دونما حاجة، البتَّة، لمثل هذه القيم، رغم اعترافه، بل وإشادته أحياناً بها إشادَتك برسومات الكهوف، واصطناع الفأس من الحجر، واستيلاد النَّار بفرك غصنين! فقد تصرَّمت أزمان مذ تعلم أن يركلها، ويستعيض عنها بثمار العلم والتكنولوجيا. ولعلَّ في ذلك شىء من المعنى الذي ذهب إليه الجنرال شوارسكوف، على أيَّام انشغاله بتحشيد التكنولوجيا العسكريَّة الحديثة عشيَّة "عاصفة الصحراء"، بعد زهاء القرن من كرري، عندما سأله الصحفيون عمَّا ستفعله قوَّاته عند الالتحام ب "النشامى"، وهو الوصف الذي راج، وقتها، في الدَّلالة على "رجولة" الجُّندي العراقي، فأجاب متسائلاً بدوره: "وما حاجتنا إلى ذلك إذا كان باستطاعة أيَّة مجموعة من المجنَّدين المثليين gays، أو المجنَّدات، حسم هذه الحرب لصالحنا، طالما كانوا يحسنون، أو كُنَّ يحسنَّ استخدام أجهزة التَّحكم النَّائي remote control والضغط على الأزرار"؟! ويا لها من "حقيقة" فاجعة، ولكنها "الحقيقة" على كلِّ حال!
ذلك ما خطر لي خلال الدَّقائق القصار اللاتي أعقبن الحدث، والإعلان الرِّئاسي الأمريكي عنه، مثلما خطر لي أن نفس هذا المبحث الذي كان جاهزاً، أصلاً، للنَّشر، قبل أيَّام من ذلك، ربَّما يصبح صالحاً، أيضاً، للإحاطة، على نحو ما، بالمناسبة الجَّديدة، في ما لو أجريت عليه تعديلات طفيفة لا تقلقل فكرته الأساسيَّة قيد أنملة، بل، على العكس، تكثِّفها، ففعلت. ولكنني آثرت إرجاء النَّشر ريثما يهدأ غليان المشاعر، فللصَّدمة والغضب وقت، وللتَّفكير والتَّدبير وقت!
(2)
وإذن، ومع أن النَّشر الحالي يجئ في مناسبة أخرى، هي الذِّكرى المائة والثَّلاثين لوفاة الإمام الثَّائر محمَّد احمد المهدي، متأثِّراً بحمَّى التايفويد بأم درمان، في الرَّابعة من بعد ظهر الإثنين الثَّاني والعشرين من يونيو 1885م، الموافق التاسع من رمضان 1302ه، إلا أن المبحث نفسه كان مكرَّساً، في أصله، للاحتفال بالذكرى المئويَّة لاستشهاد عشرة آلاف رجل، وجرح ستَّة عشر ألفاً آخرين، خرجوا، ضمن أربعين ألفاً، من بوَّابة أم درمان الغربيَّة، ثمَّ انعطفوا نواحي شمالها الشَّرقي، ليؤدُّوا صلاتهم الأخيرة ذات فجر ملبَّد بغمام خريف بعيد ما تزوَّدوا بغير "الحامض من رغوته"، كما في عبارة الشاعر محمد عبد الحي!
ستَّة وعشرون ألف صدر لم تنقصها البسالة أو الاستعداد للفداء والتَّضحية، لكنها أثقلت بهموم جبهة داخليَّة سرى إلى نخاعها الشَّوكي سوس الاستبداد بالسُّلطة، وصدَّعها، لحدِّ التآكل، قهر المظالم الاجتماعيَّة والجِّهويَّة تُباعد بين "أولاد العرب" و"أولاد البلد".
ستة وعشرون ألف عقل لم يَعُزْها الإيمان ولا الذَّكاء، غير أن العزلة الخانقة فرضت عليها ألا تبلغ من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس الجَّبليَّة قصيرة المدى، وبنادقه البطيئة ماركة "ريمنتون"، و"أبو صرة"، و"أبو روحين"، و"بيادة"، و"أورشليك"، و"خشخان"، وألا يطوف عليها ولو محض طائف من رشاشات "المكسيم"، أو دانات "المنثار SHARPHEL"، أو شظايا "الخراطيش CASE SHOTS"، أو بوارج الأساطيل المدرَّعة (ع زلفو؛ كرري، ص 359 360 412).
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تدافعوا، كما الضَّواري الكواسر، وملء الصدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى، في ذاكرة الثَّورة، عبر الوديان، والبراري، والصحاري، والجِّبال، والسهول، والغابات:
"في شان الله .. في شان الله"!
لكن قليلاً ما تهيَّأ له، في ذلك النهار الأغبر، التحام ينقع الغلة أو يجلو الشَّجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة العدوِّ التي لم تكن قد أتيحت لأولئك البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع هنَّ عمر الموقعة، تحصد الصُّفوف المتراصَّة "لعظمة الرجولة الصامدة" (Churchill, W.S.; The River War, An Account of the Reconquest of the Sudan, London, 1949)، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرَّصاص فوق صفحة بيضاء، بينما الحناجر لا ينقطع صداحها بنداء الفرسان النَّبيل:
"سِدُّو الفرَقة .. سِدّو الفرَقة"!
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تناثروا، شظايا من اللحم والعظم المفتَّت، على طريق الصَّلف الزَّاحف من وراء البحار باسم المدنيَّة والإنسانيَّة، بل وباسم الله نفسه! وسيِّدي الخليفة، في مثار النَّقع ذاك، منتصب على ظهر جواده الأشهب، فلكأنه "في عين الرَّدى وهو نائم"، لا ينفكُّ يسأل أمراءه البواسل فرداً فرداً:
"أوصيت بعدك منو في إمارة الرَّاية"؟
فتأتيه، على الفور، الإجابة الواثقة المطمئنَّة من فوق كلِّ دوىٍّ وقعقعة:
"سيدى خليفة المهدى مخيَّر، وإن كان ولا بُدْ ففلان ود فلان"!
لقد "كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"، هكذا دوَّن تشرشل في دفتر المراسل الحربي (Ibid). وكتب ستيفنس: "لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدَّنا .. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر في وجه أقوى وأحدث أسلحة التَّدمير" (مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211 ضمن: زلفو؛ كرري). وكتب فيليب وارنر، بعد زهاء السَّبعين سنة من كرري: "ربما وجدنا، إذا نقَّبنا في تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقَّبنا، جماعة فاقتهم شجاعة" (قيام وسقوط إمبراطورية أفريقية، ص 9 ضمن المصدر). لقد كانت تلك حقاً "أفضل خصال البشر عندما يتجرَّدون .. في أعنف اختبار .. من كل ضعف وخور" (زلفو؛ كرري، ص 495). حتى عبد الرحمن ود احمد، شقيق الأميرين محمود وإبراهيم الخليل، مضى يشقُّ طريقه بثبات إلى الجَّبهة الأماميَّة، متلمِّساً لنفسه، وسط كلِّ ذلك الموت المصبوب على الرُّؤوس، مكاناً وسط الصَّخر بعصاه التي لا تفارقه، رغم معارضة الأمير يعقوب "جراب الراى" الذى كان يشفق على ذلك الفارس الأسطوري، كونه كان .. ضريراً! (نفسه، ص 418).
(3)
ومع ذلك، ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الأرتال من الشَّجاعة، والبسالة، والفداء، والتَّضحية، دون منٍّ ولا أذى، مع جبهة داخليَّة أريد لها، من جهة، أن تعيش، بلا انقطاع، حياة الثُّكنة العسكريَّة القائمة في روح الطاعة، والانضباط، والاستعداد الدَّائم لخوض حروب تكاد لا تنقضي، بينما أعماقها تعلكها، من جهة أخرى، وتسرى بالوهن المميت في أوصالها، سياسات الارتداد عن الإقرار القديم بالتعدُّد، وحِدَّة الفرز الطبقي، والاستقطاب الجِّهوي، واستبداد النُّخبة الأوتوقراطيَّة بالأمر دون سائر الناس، الشىء الذي مهَّد لمختلف صور المظالم، وممارسات التَّقريب والإبعاد، والتَّناحر بين القادة المدنيين والعسكريين على السُّلطة والثَّروة، بكلِّ السُّبل والوسائل، المشروع منها وغير المشروع، مثلما كانت تهبط بقدراتها، من جهة ثالثة، عزلة "السِّتار الحديدي" عن عالمها المحيط، باستراتيجيَّاته العظمى، وقوانين حراكه التاريخي، وطبوغرافيا تناقضاته الرَّئيسة، قبل أن تكتب عليها تصاريف العصر الكولونيالي، أن تجابه، في نهاية ذلك المشهد الدراماتيكي، قمة تكنولوجيا الحرب وتكتيكاتها، في خواتيم القرن التاسع عشر، دون أن تكون قد سمعت، مجرد السَّمع، بشىء منها، بينما أبطالها ".. يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر"؟!
ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الشَّجاعة سوى أن تثبُت ، ألا تبهرج ، ألا تسوخ مفاصلها في التراب، بل وأن تقذف بنفسها في لجج دواس مأساويٍّ خاسر، حين الموت أدنى من شِراك النَّعل وأقرب من حبل الوريد، وأن تردِّد، من أعماق بطولتها الإنسانيَّة المُهدَرة، مع الفتى الرِّزيقي الذي أبرأته عبقرية المكان والزَّمان الأمدرمانيَّين من كلِّ وساوس العصبيَّة الجِّهويَّة، القائد الفذِّ لجيش "الكارا"، سيِّدي الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل:
"الخير في ما اختار الله، المهديَّة مهديَّتكم إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو .. المهديَّة مهديَّتكم إلا نصرة ما في"! (نفسه ، ص 263 410 411).
فإذا بتلك الصيحة تتماوج، بين غيوم يأسها الخانق وحُرقة غبينتها الغائرة:
"نصرة ما في .. نصرة ما في .. نص .."!
من "دهم" إلى "أبو سنط"، ومن "سركاب" إلى "أبو زريبة"، تترجَّع أصداؤها المرعبة من نواحي "الإزيرقاب" و"أم قرقور" و"راحة القلوب":
"نصرة ما في .. ما .. في .. ما .."!
لتخفق بها أجنحة الغربان تنذر بالاستباحة السَّاحقة، واليتم الماحق، والترمُّل الثقيل، ونعيقها، من على البعد، يستحث نساء المدينة المكلومة، وصبيتها، بما يستحثهم عليه مشهد الثُّقب الفاغر في سنام "القبَّة": أن اخرجوا أجمعين، أخرجوا .. أخرجوا، موشَّحين بتراب الكارثة، وبسخامها، ورمادها، كأكلح ما يكون احتفال عبوس بمقدم "سردار الشُّؤم" فى وضح نهار الثَّاني من سبتمبر 1898م؟!
(4)
ما من شكٍّ في أن فكرة "المهدي المنتظر" قد وفَّرت، خلال النصف الأوَّل من ثمانينات القرن التاسع عشر، أيديولوجيَّة النُّهوض الثَّوري اللازمة لعموم أهل السُّودان في وجه مظالم الحكم التركي. فهي، وإن لم تقض على الفروقات الاجتماعيَّة التي بقيت شاخصة في أفق الثَّورة، إلا أنَّها استطاعت أن تصوغ، بكفاءة نادرة، في مرآة الممكن التَّاريخي، صرخة الولادة الأولى للوعي القومي في مرحلة تكوينه الجَّنيني (م س القدال؛ تاريخ السُّودان الحديث 1820 – 1955م، ص 164). ولأنَّ بمقدور الأيديولوجيَّة، حين تتغلغل، عميقاً، في العقول والوجدانات، أن تحوِّل الجَّماهير إلى قوَّة ماديَّة لا تُقهر، فإن أكثر شعوب السُّودان قد تداعت، بمختلف لغاتها ولهجاتها، لدعوة "المهديَّة الثَّورة"، من كلِّ فجٍّ عميق، لا لتلغى تعدُّد كياناتها ".. فتلك النُّظم جزء من واقع لا يمكن إلغاؤه بالتعليمات" (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص 236)، وإنَّما لتتجاوز، لأوَّل مرَّة، وإلى حدٍّ كبير، تنافر العنصرين المستعرب وغير المستعرب، ولتنتظم ، موحَّدة في تنوُّعها، ومتنوِّعة في وحدتها، خلف قيادة سيِّدي الإمام الفذَّة، وتحت راياته المتعدِّدة، صوب هدف واحد مشترك هو الإجهاز على الحكم الأجنبي، في تحالف عريض استطاع أن يستوعب، خلال مرحلة الثَّورة، كل أشكال التعدُّد الاجتماعي، والعرقي، والجِّهوي، والقَبَلي، والدِّيني، واللغوي، والثَّقافي، وأن يهيِّئ لعبقريَّات أبناء الشَّعب ".. الفقراء الذين لا يُعبأ بهم"، كما كان الإمام الثائر يصفهم، طريق التَّفتُّح في كلِّ مجالات الفكر العسكري، والإدارة السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والماليَّة، والتَّعليميَّة، والقضائيَّة، وغيرها، في مسيرة واحدة قاصدة، تكاتف فيها التَّعايشي والمحسي، الحمري والرُّباطابي، المسيري والبديري، الدِّينكاوي والدُّنقلاوي، النُّوباوي والبجاوي، الكاهلي والعبَّادي، وغيرهم، وغيرهم. حتى القبائل التي تخلفت سروجها يوم الزَّحف لم تعدم بطوناً، أو أفخاذاً، أو حتَّى أفراداً من ذوى البأس انخرطوا في عصبة التعدُّد السُّوداني تلك، والتي راحت طاقاتها تتفجَّر، وتتدافع، كما الحمم البركانيَّة، وسط دوىِّ "النِّحاس" الهادر، وصفير "الأمباية" الصَّدَّاح، باتِّجاه "القمة المنطقيَّة لمواقع النموِّ في المجتمع" (نفسه؛ ص 236 237)، من معركة "أبا"، وتشكيل مجتمع "قدير"، إلى تحرير الخرطوم، وتأسيس أم درمان عاصمة للسُّودان الطالع بأسره، عنوة واقتداراً، من سخام القهر التُّركي، تاريخئذٍ، إلى طلاقة "الرَّايات" الزَّاهيات، و"التَّهاليل" الحُرَّة، و"الجُّبب" المرقَّعة حدائق أمل، وتفاؤل، واستبشار، وألوان عزَّة، وكرامة، واستقلال، فكيف استحال كلُّ ذلك إلى رماد يوم كرري؟!
(نواصل)
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.