كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة المهدية .. باقلام شعراء وأدباء الامبراطورية البريطانية
نشر في حريات يوم 20 - 09 - 2015

الثورات نبض الشعوب وشريانها الدافق الذي يمنحها عبق الوجود وإكسير البقاء .. والثورات التي تترك بصماتها علي خارطة احداث التاريخ .. هي تلك التي ينسكب علي اثرها مداد حركة الثقافة والمبدعين دونما اعتبار لحواجز الجغرافيا واللغة . ان التحالف المذهل بين لغة الثورات وحركة الثقافة والأدب .. يبقي ظاهرة كونية عصية علي التفسير منذ ازل التاريخ . فالتغيير الذي توثقه قوافي الشعر وفن القصة والكتابة .. قبل دفاتر المؤرخين .. يبقي – وان اختلف الناس حول تقييم احداثه – خالدا في الضمير الإنساني الحي .. تماماً كما الأثر تحدثه القدم فلا يزول .
من هذا الباب يسهل الولوج لدراسة الادبيات الهائلة التي خلفتها الثورة المهدية السودانية في حركة الادب والشعر البريطاني .. وهي ادبيات وان تباينت بين المدرسة الفكرية " الكولونيالية " المتحجرة التي لا تري في شعوب ما وراء البحار سوي قوميات متخلفة خُلقت لتحكم وتستعمر .. الي المدرسة " المناحية" و التي أجادت استخدام ريشتها لرسم لوحة قاتمة من البكائيات علي كبرياء الامبراطورية الجريحة.. حينما تفاجأت بان لتلك الشعوب عزيمة مثلها مثلهم تماماً ولها المقدرة علي الانتصار لإرادتها القومية ووجدانها الجمعي .. وبين هذه وتلك تجد مدرسة إنسانية صرفة تتعاطف تعاطفا فطريا مع الميل الطبعي للحرية والانعتاق من عسف الاستعمار الكامن في إنسانية بعض بني الانسان .
في 17 يناير 1885 دارت معركة "ابوطليح " التاريخية بصحراء شمال السودان بين قوات الثورة المهدية بقيادة الامير موسي ود حلو والامير علي ود سعد والجيش البريطاني الغازي بقيادة اللورد ولزلي . شهدت "ابوطليح" .. تمازجا قبليا واثنياً رائعا .. فتدافعت جموع قبائل كنانة و دغيم والحسنات والشانخاب من وسط السودان وبني جرّار و الحمر والجمع من كردفان جنبا الي جنب مع فرسان قبيلة البرقد من أقاصي دارفور .. كما تنادت قبائل بني سليم من أقاصي النيل الأزرق .. التأم والتحم كل هؤلاء مع قوات قبائل الجعليين في معقلهم وتحت ضيافتهم بشمال السودان .. تلبية لنداء الامام محمد احمد المهدي لصد قوات الغزو البريطاني . لذلك تعتبر "ابوطليح" اول معركة في القرن التاسع عشر .. تتحد فيها كل هذه الاشتات القبلية السودانية وتنصهر لمواجهة قوات غازية في منطقة شمال السودان تحديدا .. حيث جرت العادة قبل ذلك ومنذ منذ قدوم حملة اسماعيل باشا الغازية للسودان في 1820 .. علي ان تقوم كل قبيلة بمقاومة المحتل بمفردها مما سهل مهام القوات الغازية علي الدوام .
شهدت ملحمة " ابوطليح" اختراق المربع الانجليزي للمرة الثانية علي التوالي ( قام بالاختراق الاول الامير عثمان دقنة قائد قوات المهدية في شرق السودان بمعركة طماي 1884 ). قام السودانيون في " ابوطليح" بغرس راياتهم في منتصف المربع وسط ذهول اعدائهم الذين لم يصدقوا ما كان يحدث امام اعينهم .. وفي تلك المعركة جري اشتباك دام بالرماح والسيوف مما قلل من فعالية النيران الانجليزية ونتيجة لذلك خّر الكولونيل البريطاني "برنيبي " صريعا برمح الامير البشير عجب الفيا مع 17 من خيرة ضباط الحملة وقُتل ما يقارب ال 368 من الجنود البريطانيين وسقط 1069 جريحا منهم .. وفي الجانب الاخر استشهد من قوات المهدية عدد مقدر وكان أبرزهم الامير الشجاع موسي ود حلو والذي ابر بوعده للامام المهدي بغرس راية الثورة المهدية الخضراء في قلب المربع الانجليزي ! واستشهد أيضاً الفارس الباسل محمد بن الامير علي ود سعد والذي لم يبلغ العشرين بعد ! بينما جرح والده الامير علي ود سعد في كتفه .
وبعيدا عن عن صحراء " ابوطليح " .. وبالتحديد قريبا من شواطئ بريطانيا المطلة علي بحر الشمال البارد .. حلت أنباء المعركة علي البريطانيين تماماً ككارثية ثلوج شتاء يناير المتساقطة بكثافة آنذاك .. لقد كان ثبات السودانيين في "ابوطليح" ملهما للشاعر البريطاني السير هنري نيوبولت.. Sir Henry Newbolt .. فنظم قصيدته الشهيرة بعنوان Vitai Lampada ..التي ترثي ابياتها الحزينة قتلي الجيش البريطاني وفي مقدمتهم الكولونيل برنيبي .. وجاء فيها:
ها هي رمال الصحراء قد تخضبت باللون الأحمر ..
حمراء هي .. بلون حطام المربع الانجليزي المنكسر !
لقد صمت المدفع .. و قُتِلَ الكولونيل !
قُتل الكولونيل !
وهاهو فيلقنا .. تحجب ابصاره..
سحائب الغبار والدخان
ونهر الموت قد فاض حتي ..غمر ضفتيه..
( السير هنري نيوبولت: Admirals All, الناشر : Biblolife publisher , ساوث كارولينا ، الولايات المتحدة،2009).
وفي تلك القصيدة يستخدم نيوبولت الشعر الرمزي ايضا لاستنهاض كبرياء بريطانيا الجريحة .. حينما يخاطب من خلال بعض ابياتها مباراة افتراضية للكريكيت بين طلاب مدارس بريطانيا .. يحثهم علي الثبات عند صعاب اللعبة ومواصلة المشوار .. ووتتنقل أبيات القصيدة بين ملعب الكريكت الي " ابوطليح " . ومن ثم الي ملعب الكريكت مرة اخري .. في توظيف إبداعي رائع لما يعرف بالمدرسة الاستدعائية في كلاسيكيات الشعر الانجليزي .. ويردد الشاعر في ختام قصيدته وصيته للصبية الصغار .. بان يمضوا في الحياة متوهجين كما المصباح المشتعل .. و Vitai Lampada نفسها عبارة لاتينية ترجمتها هي " شعلة الحياة" .. ولعل الشاعر استدعي هذا العنوان لقصيدته ليٌذكر بان كسر أسطورة المربع الانجليزي بأرض " ابوطليح" لهو امر يستدعي التصميم والعزيمة للثأر لهؤلاء القتلي وان هؤلاء الصبية البريطانيين لابد ان يتقنوا الجلد والصبر علي الشدائد ليأخذوا بالثأر مستقبلا لبريطانيا من هؤلاء السودانيين.. ويبقوا علي شعلة كبريائها متقدة ومفعمة بالحياة ..
وعلي اثر تناقل الأوساط الأدبية في بريطانيا لقصيدة Vitai Lampada .. توترت الأجواء السياسية هناك واقترن ذلك بمراسلات خشنة بين الملكة فكتوريا وقائد حملة إنقاذ غردون العسكرية البريطانية .. اللورد ولزلي .. ابدت من خلال تلك المراسلات .. قلقها علي مصير جيش انفقت عليه خزانة حكومتها ما يقارب السبعة ملايين من الجنيهات الاسترلينية .. كانت قد عقدت عليه الامال لسحق الثورة المهدية بالسودان وانقاذ الجنرال تشارلز غردون من بأس تلك القبضة. وعلي اثر ذلك كتب ولزلي لزوجته الليدي لويز ولزلي قائلا " انني اشعر بغاية الحنق والضيق من خطاب جلالة الملكة ( والذي أرفقه لك في هذه الرسالة) .. فمن النادر جدا ان تكتب الملكة خطابا مؤذيا كهذا لقائد عسكري مثلي في الميدان. لقد كانت كلماتها تعبر عن منتهي الفظاظة وعدم التقدير ! ولكن بما انها ملكة بريطانيا فإنني لا أستطيع ان اجادل جلالتها لذلك قررت ان أتوقف عن الكتابة والرد عليها " .. ( نيكول : أوراق اللورد ولسلي ، خطاب بتاريخ يناير 1885، مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة 2004 ، ص 290 ) .
اما علي مستوي الشعر الشعبي البريطاني الذي تناول تلك الملاحم السودانية .. فقد راجت تلك الاغنية الشعبية الحزينة عن مقتل غردون وهزيمة القوات البريطانية علي يد قوات الثورة المهدية بعنوان Too late to save him ..فصارت لحنا شعبيا معروفا يعزف في حانات لندن القرن التاسع عشر بأمسيات الانس أواخر الأسبوع ..
هناك في السودان غاب عنا ..غاب عنا
هناك .. طأطأت إنجلترا رأسها .. وانكسرت
من هناك .. من هناك ..
تفشي نبأ ارتعشت له قلوب كل البريطانيين ..
قُتِلَ بطلنا العظيم .. قُتِلَ بطلنا العظيم .
( من ارشيف الأغاني الشعبية البريطانية، National Library of Scotland،ادنبرة، نسخة الكترونية 2012).
وبينما كانت حانات لندن تضج بصخب الساخطين والمحبطين .. كانت جيوش الغزو البريطاني المنهزم تعاني من
ملاحقات قوات المهدية التي تعقبت فلولها في صحراء الشمال .. ونفذ الأمراء حمدان ابوعنجة وعبدالرحمن النجومي والنور عنقرة سلسلة من الاشتباكات الخاطفة مع تلك الفلول المنهزمة فسقط الجنرال البريطاني وليم أيرل صريعا في موقعة كربكان .. و دفعت تلك الأجواء المحبطة ولزلي للكتابة بمرارة لزوجته مجددا في فبراير 1885 قائلا : " لقد انتصر المهدي .. وها نحن نبدو جميعاً.. كالاغبياء !" .. ( The Mahdi has won , and we all look very foolish) .. ( نيكول: مصدر سابق ، ص 224 و225) .
لقد كان تتابع انتصارات الثورة السودانية علي قوات الغزو البريطاني مدعاة لمناحة وطنية كبيرة داخل بريطانيا .. فمع رجوع طلائع الحملة البريطانية وهي تجرجر اذيال خيبتها الي شواطئ بريطانيا في ربيع 1885 .. اصدر الشاعر البريطاني الشهير وليام واتسون ديوان شعر حزين بعنوان " Gloomy Spring " او "الربيع القاتم" .. وعلق في مقدمة ذات المجموعة القصائدية علي انتصارات المهدية في السودان ومقتل غردون قائلا : ( لقد تحولت الامجاد البريطانية الي ما يشابه العار التاريخي) .. كما سلق وزراء حكومة جلالة الملكة بالسنة حداد حينما وصفهم بالقادة المتبلدي الذهن . لم يخف واتسون اعجابه بشجاعة السودانيين في التصدي لقوات الغزو البريطاني بل وخصص لذلك قصيدة رئيسية في إصدارته بعنوان " The Sudanese" .. وقد نظمت تلك القصيدة علي نسق عرف في ادبيات الشعر الانجليزي آنذاك باسم "Sonnet" وهي قصيدة مكونة من أربعة عشر بيتا شعريا .. وجاء في مطلعها :
السودانيون..
لم يخطئوا بحقنا .. لم يقاتلونا لأجر ولا مال يترجونه من احد
في تلك المعركة المريرة ..
باسم ربهم .. ارتفعت حناجرهم بالهتاف
طلبا لعونه .. سعوا لتحقيق العدالة الغائبة
في الجنة سيرقدون.. ان تم نفيهم من الارض بلا انتصار
ثم يمضي في بقية الأبيات ليصف ضراوة الاشتباكات المحتدمة بين قوات الثورة المهدية والجيش البريطاني في المعارك المختلفة .. ويوجه قدرا هائلا من التمجيد لشجاعة البريطانيين وبلائهم ايضا.. تمجيدا لم يكن كافيا لجعل صاحبه بمأمن من انتقادات مؤرخين معاصرين كفيرجس نيكول والذي وصف مقدمة قصيدته وابياتها التي تمجد الشعب السوداني وعدالة قضيته في مواجهة الاحتلال البريطاني .. بانها تلسع قارئها كما السم الزعاف ! لقد سبق واتسون فيما ذهب اليه من قبل رئيس وزراء بريطانيا جلادستون حينما ارتجل في مارس 1884 خطبة عصماء في مجلس العموم البريطاني ملخصا الوضع في السودان كما يراه هو .. " ان هذا الشعب يناضل من اجل حريته .. ومن حق هؤلاء ان يناضلوا من اجل حريتهم ! " ..( فيرغس نيكول :جلادستون و غوردون وحروب السودان ، Publisher Pen and Sword, نسخة الكترونية 2013 ، ص 342-343 )
ومع تصاعد انتصارات الثورة المهدية في السودان علي جنرالات بريطانيا بدءا ب" وليام هكس " ومرورا بفالنتاين بيكر في شرق السودان وانتهاءا بغردون في الخرطوم .. حدثت هزه عنيفة في الأواسط النخبوية البريطانية ..مما دعا المؤرخ والصحفي البريطاني فيرغس نيكول لوصف فترة تورط بريطانيا في حروب السودان بانها " من ابرز اللحظات التي التقي فيها أدب بريطانيا بسياستها".. Where Art met politics .. ويتجلى ذلك بوضوح تام من خلال كتابات الروائي البريطاني الأشهر آنذاك " روبرت لويس ستيفنسون " .. صاحب الرواية الأكثر رواجا من بين الاعمال الروائية البريطانية في القرنين الاخيرين بعنوان " جزيرة الكنز " او "Treasure Island ". فعلي الرغم من صحته المعتلة والتي جعلته علي مشارف الموت آنذاك الا ان ذلك لم يمنع ستيفنسون من متابعة احداث الثورة السودانية عن قرب فكتب لصديقه جون سايمندز في أعقاب تحرير الخرطوم علي يد قوات المهدية قائلا : " ان هذه ايام سوداء مليئة بالخزي لكرامة بريطانيا " .. ويبدو ان مرارة الهزيمة البريطانية بمقتل غردون قد دفعته للمضي ابعد من ذلك فجنح قلمه لرسم لوحة قاتمة لها بكلمات بليغة وهو الأديب المتمكن قائلا " ان الامبراطورية البريطانية تقف امام العالم الأن و الدماء تقطر منها وقد غمرها الْخِزْي والعار ".. ( نيكول : مصدر سابق ، ص 341-342 ).
ومن المدهش حقا ان احداث الثورة المهدية في السودان قد حملت بعض أدباء بريطانيا علي الاصطفاف الصريح في جانب الثورة .. ونذكر منهم علي سبيل المثال الشاعر والروائي الانجليزي وليام موريس والذي اكتسب شهرة واسعة بسبب أعماله الأدبية الخالدة كروايتييه .. "The House of Wolfings" و " The Well at the World's End" . كان موريس قياديا بارزا بتنظيم الاتحاد الاشتراكي البريطاني او " Socialist League" والذي عرف اختصارا ب SL .. وقد عرف الSL بعدائه للإمبريالية ومناصرته لكفاح الشعوب من اجل الحرية . لقد كان موريس مجاهرا منذ البداية بمعارضته لارسال جيش بريطاني للسودان لإنقاذ غردون وعرف عنه حماسته لحق السودانيين في تقرير مصيرهم بأنفسهم وعندما حررت قوات الثورة المهدية عاصمة البلاد .. كتب موريس لابنته ماي موريس بتاريخ 20 فبراير 1885 قائلا : "لقد سقطت الخرطوم في أيدي شعبها الذي تنتمي اليه " .. " Khartoum has fallen into the hands of the people it belongs to ".. وهو ذات الموقف الذي تبناه الاتحاد الاشتراكي . وفي اول تعليق رسمي له علي انتصارات الثورة المهدية قال موريس : " ان النصر الذي حققه السودانيون علي بريطانيا هو في المقام الاول نصر للحق علي الباطل ( A triumph of right over wrong) وهو انتصار مستحق انتزعه شعب يقاتل من اجل حريته " .. اما عن غردون فقد لخص موريس رأيه الصريح فيه في كلمات قصار موجزات : " لقد استعمل غردون قدراته الإدارية والعسكرية ليجلب الشعب السوداني تحت وطأة نظام استعماري مستبد ومنحط .. ان محاولة البعض لصناعة بطل من رجل كهذا .. تعد بمثابة الاساءة للقيم الاخلاقية للشعب البريطاني ".. اما عن حملة الانقاذ بقيادة ولزلي فيقول موريس : " انهم مجموعة من اللصوص الذين يسعون لنشر حضارتهم الزائفة.. Shoddy civilisation " ( نيكول : مصدر سابق ،ص 345-346).
اما علي صعيد شعراء الامبراطورية ذوي الميول الاشتراكية .. فقد ألهمت احداث الثورة المهدية في مواجهة الغزو البريطاني .. شاعرا استراليا مجيدا بقامة " بانجو باتريسون" والذي اشتهر بانه صاحب كلمات الأهزوجة الشعبية الأسترالية الأكثر رواجا منذ القرن التاسع عشر وحتي اليوم الا وهي قصيدة " Waltzing Matilda" .. قصيدة عدها الاستراليون بمثابة النشيد الوطني الموازي لاستراليا لكلماتها الاقرب لوجدانهم الشعبي . حينما قررت حكومة الملكة فكتوريا استجلاب قوات استرالية الي ميناء سواكن لتعزيز قوات الجنرال جرهام ومحاصرة تقدم الامير عثمان دقنة عليه في تلال البحر الأحمر . عندها لم يستنكف باتريسون من ان يظهر تعاطفه الصارخ مع الثورة المهدية بل تنبأ بانتصار الثورة علي الغزاة البريطانيين ..لأن الحرية حتما ستنتصر – علي حد كلماته- وهنا بعض أبيات قصيدته بعنوان "El Mahdi to the Australian troops "
يا رجال استرليا ماذا اتي بكم الي هنا ؟
لماذا يا ابناء استراليا العادلة .. الحرة ؟
لماذا ترفعون سلاحكم ..
في وجه رجال يحاربون من اجل حريتهم؟
تتحالفون مع الام ( بريطانيا) .. لتهزموا الحق !
لماذا استراليا تترك كنوزها للمخاطر فيما وراء البحر ؟
لماذا تغادر ارضها الحرة ..
لتغرس سيفها في حرب غير مقدسة !
كفي .. كفي ..
ان الرب لن يبارك هذه المغامرات البائسة..
جنرالات إنجلترا الفاسدون .. حتما سيندمون
ضحوا به لم تسعفه شجاعةٌ ..غردون
قريبا .. سيشهدون ..
فتية صحراء السودان ..
بالالاف ضدهم سينتفضون
يجعلونهم كحبات الرمل تذروها رياح المنون ،
باسم الرب والرسول ..
للحرية سينتصرون ..
باسم الرب والرسول..
للحرية سينتصرون ..
( بانجو باتريسون : قصيدة بعنوان : El Mahdi to the Australian troops ، نشرت بصحيفة The Bulletin الأسترالية ، بتاريخ 28 فبراير 1885).
وبالرجوع قليلا الي الوراء .. وتحديدا عندما وطأت قدما غردون ارض مدينة الخرطوم في 18 فبراير 1884 .. لابد ان " كبلينج " شاعر الامبراطورية البريطانية .. لم يكن يعرف عن السودان اكثر من انه بلد خامل الصيت يقبع في الحديقة الخلفية لبلد يسمي مصر ! لعله قد سمع بتمرد يقوده مجموعة من العصاة المحليين ولكن لابد ان نفسه حدثته بان هؤلاء لن يقدروا علي الصمود امام بطل الامبراطورية البريطانية وخبير قمع ثورات الشعوب " The Ever Victorious Gordon" .كما كان يحلو للإنجليز ان يلقبونه ..فالامر لا يعدو ان يكون نزهة في واحدة من تلك الدرر التي ترصع التاج البريطاني !
وبينما كان كبلينج في خواطره العابرة تلك .. كانت توجيهات الامام المهدي قد سبقت للامير عثمان دقنة في شرق السودان بالإسراع في عملية تحرير مدن الشرق وقطع الطريق امام اي تعزيزات بريطانية عن طريق البحر الأحمر .. ووجه المهدي من خلال منشوراته الامير عبدالله حامد بسرعة توحيد قواته مع عثمان دقنة لتحقيق هذا الغرض..لقد حقق عثمان دقنة انتصارات باهرة علي قوات الجنرال البريطاني فالنتاين بيكر وجراهام وتم تحرير طوكر وسنكات في زمن قياسي .. وحطم الامير دقنة أسطورة المربع الانجليزي الذي لا يقهر تماماً.. فاخترقه فرسان البجا البواسل من قبائل الهدندوة والامرأر والبني عامر والحباب لمرات عدة .. مما حمل الدوائر الاستخبارتية الانجليزية علي وصف الامير عثمان دقنة في أدبياتها ب " ثعبان الماء الزلق" ! لقد كانت تعليمات المهدي المشددة لعثمان دقنة واضحة تماماً .. وهي البقاء في شرق السودان لمنع اي قوات بريطانية من التقدم ريثما يتم تحرير الخرطوم .. وفي تلك الأثناء طارت أصداء انتصارات الثورة المهدية علي القوات البريطانية .. في شرق السودان.. لاصقاع أوربا البعيدة فالهبت خيال " كبلينج " .. والذي سطر اروع قصائده عن ملاحم المهدية مع القوات البريطانية في شرق السودان .. بعنوان Fuzzy Wuzzy ..
في ما وراء البحار جالدنا أقواماً شتى
بعضهم كان باسلاً.. وبعضهم لم يكن
باتان، وزولو، وبورميين
لكن الأشعث كان أعجبهم
لم يمنحنا معشار فرصة
بل لبد راصداً في الحرش.. ثم عقر خيلنا!
مزق أرصادنا في سواكن
ولاعبنا لعبة القطة والفأر
يا أيها الأشعث الثائر في وطنك السودان
يا لك من فارس لعين ومقاتل من النخب الأول
ولو شئت أعطيناك بذلك شهادة إقرار
ولو شئت أتيناك لنحتفل سويا بالإقرار..
وتمضي كلمات كبلينج لتصف خوارق الشجاعة التي أبداها السودانيون في مقاومة البريطانيين .. ليختم قصيدته بتلك الأبيات الأروع :
أخيراً إليك يا أشعث في وطنك السودان
أيها الفارس اللعين والمقاتل المصطفى
إليك يا ذا الشعر الثائر..
تهانينا يا أحمق يا مغوار فقد كسرت المربع البريطاني !
( كبلينج : Barrack room ballads by Rudyard kipling ، جامعة اكسفورد، المملكة المتحدة – نسخة الكترونية 2012 ، ص 14 ، ترجم النص للعربية الدكتور غازي صلاح الدين ).
وفي أواخر ابريل 1885 .. رست السفن الانجليزية قبالة شواطئ سواكن لتقل فلول الجنرال الانجليزي جراهام المثخنة بالجراح في رحلة الاوبة الي إنجلترا .. وعندها أسرع الامير المنتصر عثمان دقنة برفع تقريره للامام المهدي قائلا : " لقد قذف الله الرعب في قلوب أعداء الله الانجليز بفضل ثبات الانصار فولّوا الأدبار هاربين ".. وتبعا لذلك سال مداد القصيد الموشح بالحزن والانكسار الكولونيالي البريطاني ..و قام حينها الشاعر الإسكتلندي الشهير "جورج ابيل ".. George Abel .. باصدر روائعه في كتاب بعنوان " غردون وقصائد اخري " .. تضمنت تلك المجموعة الشعرية اجود قصائده التي قال في بعض ابياتها :
ثم اتي "هكس " ليقضي نحبه عطشا في السودان..
في ساحة القتال ضد المهدي..
خّر صريعا .. عاجزا ..
رباه .. كيف عجزت بريطانيا عن عونه ؟
و "بيكر" في اثره .. سقط في الجب المميت
قاد جيشا ممن لا شجاعة لهم ..
فسقطوا ..
اصطادونا أعراب السودان بسهامهم
تعزيزاتنا طال انتظارها .. تأخرنا كثيرا
رجالنا النبلاء في سواكن لقوا حتفهم لآخر رجل فيهم
ثم أرسلنا الحملة البريطانية ..
فضاعت .. هباءا منثورا في الصحراء
رباه .. وقعوا جميعا في قبضة رجال عثمان دقنة السمر !
( جورج ابيل : غردون وقصائد اخري ، Gordon and other poems، أعادت نشره ، Nabu Press، ساوث كارولينا ، الولايات المتحدة ، 2010).
وفي عام 1942 زار السودان .. وتحديدا .. مدينة سواكن الشاعر الانجليزي الشاب "جلنكارين بالفور بول" .. والذي سيُصبِح فيما بعد دبلوماسيا بارزا وسفيرا للمملكة المتحدة في بقاع شتي من أنحاء العالم .. مبهورا بشجاعة المهدويين ..كتب بالفور بول أبياته التي قدم لها بانجليزية مبسطة:
" A reference to the bravery of the Mahdist Osman Digna and his followers who fought the British here in 1891 " ..
وترجمتها : " بالاشارة لشجاعة القائد المهدوي عثمان دقنة وانصاره الذين قاتلوا البريطانيين هنا في 1891 " .
وتقول بعض أبيات القصيدة التي نظمها الشاعر والدبلوماسي البريطاني :
بينما النوارس تحط رحلها علي الصخر ..
تراقب امواج الشاطئ المتلاطمة
تنشد رحلة الخلاص للساحل
ها أنا ذا اجلس قبالة تلك الصخور ..
حيث يرقد الرجال السودانيون البواسل ..
الذين لا تهاب رماحهم .. رصاصنا المنهمر !
( جلن بالفور بول : Bagpipes in Babylon، الناشر: I. B. Tauris ، لندن- المملكة المتحدة ، ،2006، ص 91) .
لقد ظلت تلك الملاحم السودانية الخالدة حية في ضمير شعراء بريطانيا جيلا بعد جيل .. ففي 1982 نظم الشاعر والمعلم البريطاني بيتر افيرنجتون (Peter Everington ) .. قصيدة بعنوان Aba Island او " جزيرة ابا " .. يسرد فيها بدايات الثورة المهدية وكيف انها وحدت الشعب السوداني من اجل التحرر من الاستعمار .. وهي من قلائل القصائد في الادب البريطاني التي تعرضت لسنوات المهدي المبكرة في الجزيرة ابا نقطة اندلاع الثورة المهدية الاولي .. وبيتر افيرنجتون لمن لا يعرفونه ..شاعر بريطاني مجيد .. عمل معلما في وزارة التربية والتعليم بالسودان بين 1958-1966 .. فأحب تلك البلاد وعشق شعبها وتاريخها وزار كل بقاعها.. وتقول بعض كلمات قصيدته :
It is the Mahdi who is in Aba cave.
For years has pondered, disciplined and remained calm.
How best he inspired the weak , united the brave.
The dawn of later years and Island shows,
Where all the tribes live prosperous and free ;
O may this Sudanese generation in their age ,
Reaping the fruits of freedom from his grave ,
Read their land's success from history's page,
Remember that it all started in this cave !
Remember that it all started in this cave !
وترجمتها :
انه المهدي .. في كهفه بجزيرة ابا !
لسنوات .. قضي وقته متأملا .. هادئا .. يهذب ذاته
كيف الهم الضعفاء.. ووحد الشجعان ..
بفجر السنوات القادمات والجزيرة تلك .. تري
كيف عاشت تللك القبائل .. اجواء الحرية
فلتعلم اجيال السودان اليوم ..
ولتقطف ثمار الحرية من ضريح المهدي..
ولتقرأ نجاحات الوطن من أوراق التاريخ ..
ولتذكر دوما ان كل شئ بدأ من هنا .. من هذا الكهف !
ولتذكر دوما ان كل شئ بدأ من هنا .. من هذا الكهف !
صفوة القول ان بريطانيا القرن التاسع عشر كانت قد خاضت حروبا لا هوادة فيها لتوسيع أراضي إمبراطوريتها التي زعمت ان شمسا لن تغرب عنها قط! لقد جالد الانجليز "فيما وراء البحار أقواما شتي" .. كما قال كبلينج شاعرهم الاول .. وَمِمَّا لا شك فيه ان هؤلاء قد جوبهوا ببسالة منقطعة النظير حينما تصدي لهم السودانيون تحت رايات الثورة المهدية .. بسالة وإباء .. خلدت فصول ملاحمها روائع وعيون شعر الأعداء قبل الأصدقاء. ان الانجليز بطبعهم قوم جُبلوا علي الاعتزاز بأنفسهم الي حدٍ دعا البعض لوصفهم بالشعوب المتعجرفة .. ومن هذا الباب يحق ان ينظر الناظر الي ذلك الارث المرتبط بالثورة المهدية في دفاتر شعراء وأدباء بريطانيا .. علي انه امر مدهش حقا .. يستدعي ذلك حتما ان نجدد نحن السودانيون مصادرنا لقراءة تاريخنا لنعيد اكتشاف تلك الأصداء العظيمة التي دونها أعداء الامس في تلك الاصقاع الباردة . علي العموم اتمني ان تفتح تلك الدراسة المتواضعة الباب امام المزيد من الدراسات التي تتناول آثرنا كسودانيين في ادبيات وارث الشعوب الأخري .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.