المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    تعادل باهت بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشّورى والديمقراطيّة في الإسلام على ضوء اجتهادات محمود محمد طه
نشر في حريات يوم 01 - 10 - 2015


فريد العليبي
واجه المسلمون على صعيد السياسة مشكلة اختيار نظام حكم لا يتعارض مع الدِّين وتكون له القدرة على مواجهة معطيات الواقع أي تحقيق المواءمة بين الدِّين كأصول ثابتة والواقع كظواهر متغيّرة متبدلة، ممّا يعنى أنّ التّساؤل عن نظام الحكم يحيل لديهم إلى معضلة فعليّة .
وغالبا ما تبرز في مثل هذا المقام إشكاليّة الشّورى والديمقراطيّة لاتّصال الشّورى بالدِّين من جهة ، واتّصال الديمقراطيّة بما بلغه شكل نظام الحكم من تطوّر من جهة ثانية، وهو ما من شأنه أن يدفع فلسفيًّا باتّجاه محاولة رصد تلك الإشكاليّة وإلقاء نظرة على محاولات حلّها، وهذا ما نبتغى الإبانة عنه في هذا المقال بالعودة إلى أحد المفكرين العرب المعاصرين الّذين انشغلوا بتلك المشكلة فاقترب من إحدى مناطق التّوتر الفكريِّ الأشدّ إثارة مقدّما اجتهادات لا تخلو من جرأة فكان أن كلَّفته حياته عندما حكم عليه بالإعدام بتهمة الردّة ونعنى المفكر السوداني محمود محمد طه.
وما يجدر التّنبيه إليه أنّه يجري تطارح تلك الإشكاليّة ضمن واقع ينصهر فيه الدِّينيُّ في السياسيُّ وغالبا ما يتحكّم به، ممّا طرح خيارين على بساط البحث يتمثّل أحدهما في المحافظة على الوصل بين الدِّين والسياسة واستخراج القوانين من المدوَّنة المقدَّسة بالمحاجة أنَّ الدِّين ليس مجرَّد حياة روحيّة وإنّما هو أيضا دنيا، وبالتّالي سياسة، بينما يتمثّل الثّاني في الفصل بينهما، وهو ما أثار صراعا إيديولوجيًّا محتدما تحت يافطة الإسلام والعلمانيّة. ومهمة الفصل أو الوصل هنا ليست فكريّة فقط وإنّما عمليّة أيضا، ممّا يضفي على المسألة قدرًا غير يسير من التّعقيد.
وغنى عن البيان أنّ طرح إشكاليّة الشّورى والديمقراطيّة يتمّ ضمن واقع تاريخيِّ موسوم بسيطرة السّلطة الدِّينيّة، الّتي اتّسع نطاق تأثيرها مع مرور الوقت، حتّى أنّ السّلطة السياسيّة وجدت نفسها تستظلُّ بظلِّها في أحيان كثيرة حدَّ الاندماج ، بل إنَّ السّلطة الدِّينيّة أضحت المتحكم الفعليَّ بالسّلطة السياسيّة، مانحة إيّاها شرعيتها وأضحى للسُّلطة السياسيّة علماؤها وفقهاؤها ودعاتها وشيوخها. وقد ساعد على ذلك أنّ الإسلام كدين يوفِّر إمكانيات عريضة للربط بين الديِّن والدنيا كما ذكرنا حتّى أنَّ الله يغدو حاكما فعليًّا على المستوى السياسيِّ، إذ الأمير أو الخليفة أو السّلطان ليس إلّا خليفته . وضمن هذا المجال فإنّ علماء الدِّين يمارسون وظيفة حراسة العقيدة من كلّ زيغ، فهم القيِّمون على حسن تطبيق الشَّريعة دون أن يلغي ذلك إمكانيّة تلاعب السُّلطة السياسيَّة بالسُّلطة الدِّينيّة ووضع اليد عليها وتوظيفها لصالحها، مثلما تشهد به وقائع عديدة يزخر بها التّاريخ الإسلاميُّ.
ومن ثمّة فإنّ النَّظر في الصلة بين الديمقراطيّة والشُّورى يحيلنا لا محالة إلى تلك الإشكاليّة المجاورة المتعلّقة بالدِّين والسياسة وهى الموسومة بتوتر أكبر، فما يُطرح للبحث هنا هو ما إذا كان ينبغي المحافظة على الحكم الدِّينيِّ تحت عنوان الشُّورى باعتباره قادرا على تدبير شؤون النّاس في المجتمع الإسلاميِّ الحديث، ولا يخفى أنّ تلك الإشكاليّة ارتبطت على امتداد قرون بالفتنة والانقسام الملي.
والملاحظ أنّ التَّقليد السَّائد يقوم على القول إنَّ الشُّورى لا تتعارض مع الديمقراطيّة، ويذهب إلى حدِّ تأكيد التَّطابق بينهما، ولكنّه يواجه اعتراضات جدِّيّة فالشّورى تحيل إلى استشارة يقوم بها الأمير فيسأل بتوسّلها أصحاب الرأي والخبرة عن أمر مّا، وهؤلاء ليسوا الملِّة كلَّها وإنَّما من يفترض أنَّهم يعبِّرون عنها في مجال الرأي، ممَّا يترتب عنه التَّشكيك في هذه التمثيليّة الّتي لا تخضع لمعايير ديمقراطيّة وهو ما يجعل الشُّورى تدور في دوامة الخاصَّة والعامَّة .
ويسود ضمن الفكر الإسلاميِّ الرائج أنَّ الشُّورى اكتشاف إسلاميٌّ محض وأنَّها كمبدأ في الحكم قد تمَّ تطبيقها خاصَّة في عصر الإسلام الأوَّل، فإذا كان المسلمون الأوائل بعد وفاة النّبي قد تشاوروا في أمر من يخلفه جرّاء عدم تعيينه لخليفته قبل موته فإنّ ذلك أُعتبر دليلا على أنّ من يعين الخليفة هم أهل الرأي بتوسّل الشّورى. غير أنّ اللّجوء إلى هذه الوسيلة لحسم ذلك الأمر، وهو ما حدث لأوّل مرّة في سقيفة بني ساعدة لا تخفى صلته بما كان سائدًا من مبادئ الحكم قبل الإسلام، سواء لدى العرب أو غيرهم من الأقوام، فبالعودة إلى القرآن نجد آيات تشير إلى أنّ الملوك القدامى قد اعتمد بعضهم الشّورى، فهذه الملكة بلقيس وقد وردها كتاب النّبيِّ سليمان تطلب من أصحاب الرأي والخبرة في بلاطها أن يتدبَّروا معها الأمر ويشيرون عليها برأيهم (قالت يا أيُّها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرًا حتَّى تشهدون قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ) النَّمل / 32 33. ولدى العرب القدامى كانت هناك دار النَّدوة، وهي أشبه بمجلس تمثيليٍّ، يجتمع فيه نوَّاب القبائل من أهل الرأي والخبرة والشَّوكة للتَّشاور في الأمور الهامَّة.
ومن هنا فإنَّ الشُّورى الَّتي نتحدَّث عنها هي مصطلح إسلامي، غير منفصل عن البيئة الَّتي نشأ فيها، وتتحدَّد دلالته ضمن القرآن من خلال الآيات الَّتي وردت فيه، وقد عرَّف الرَّاغب الأصفهاني هذا المصطلح بقوله: التَّشاور والمشاورة والمَشُورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شِرْتُ العسل، إذا اتَّخذته من موضعه واستخرجته منه، قال الله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159] .والشُّورى: الأمر الَّذي يُتشاور فيه، قال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشُّورى: 38]."
وإذا بحثنا في الآيات الّتي يذكرها الرَّاغب الأصفهاني، وربطناها بما قبلها وما بعدها فإنَّنا نجد في القرآن ما يلي:"وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ "سورة الشُّورى-آية 38 حيث يتعلَّق الأمر هنا بخطاب موجَّه إلى المسلمين أي إلى هؤلاء الَّذين لاقت دعوة الله لديهم استجابة فتقيدوا بفروضه ومنها الصلاة والزَّكاة وعليهم أن يتدبَّروا شؤونهم بالشُّورى، كما نقرأ أيضا: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ- 159سورة آل عمران. والمخاطب هنا هو النَّبيُّ فبفضل رحمة الله سلك سبيل اللين وابتعد عن الغلظة والفظاظة، ممَّا جعل المؤمنين يلتفُّون حوله وهم الَّذين يأمره الله بالعفو عنهم والاستغفار لهم وأن يشاورهم، غير أنَّه يضع القرار الأخير بين يديه فعند العزم يتوكَّل هو عليه وينفذ ما استقرَّ عليه رأيه، وقد أثارت هذه الآية مشكلا من حيث ما إذا كانت قرارات الشُّورى ملزمة أم إنَّها مجرَّد مشورة يمكن الاستئناس بها، أمَّا القرار الأخير فللنَّبيِّ.
وعندما نقول أهل الرأي والخبرة فذلك يترتب عنه التَّشاور بين ذوى الاختصاص في هذا المجال أو ذاك من مجالات السياسة والاقتصاد والحرب الخ ..غير أنَّ هؤلاء يمكن أن يكونوا أهل علم وخبرة ولكنَّهم على صعيد الأخلاق غير جديرين بالمشورة، لذلك يحرص الفقهاء على توفُّر شروط أخرى مثل النَّزاهة والعدل.
ولا تستعمل الشُّورى في كلِّ الأمور، فعندما يكون هناك نصٌّ صريح حول مسألة مّا فإنَّ الشُّورى تنعدم وتصبح لاغية، وهو ما يزيد المسألة إحراجا بالنظر إلى ضيق نطاق الشُّورى قياسا إلى اتّساع مجال الديمقراطيّة.
وعلى هذا النَّحو تتمثَّل المعضلة الَّتي واجهت القائلين بالتَّماهي بين الشُّورى والديمقراطيّة في مصدر السُّلطة ومرجعها، فإذا كانت الديمقراطيّة تتطلَّب العودة إلى الشَّعب وحده، و منه تستمد قراراتها وسلطتها، وتنظر إلى الحكم باعتباره شأنًا إنسانيًّا صرفًا، وتعتبر المواطنين متساوين حقوقيًّا وأحرارًا، فإنَّ الشُّورى محكومة كما قلنا بالنّص المقدَّس وآراء أهل الحلِّ والعقد ، ففيها ليس الشَّعب غير رعيَّة تتحكَّم بها سلطة دينيّة، فهو مُقيّد بأحكام باتة مفارقة في أغلبها، لذلك لا يمكنه تبديلها، وإذا كان النَّبيُّ والخليفة والإمام هو من يقرر في الأخير فما الفائدة من الشُّورى؟ إذ في هذه الحال فإنَّ أهل الحلِّ والعقد أنفسهم لا يمتلكون القرار الأخير، هذا فضلا عن فقدان الشَّعب لتلك القدرة أصلا وفصلا، و في هذا المجال يذهب الغزالي على سبيل الذِّكر إلى القول باستحالة إجماع عامَّة النَّاس في مبايعة الخليفة ف" باطل أن يعتبر فيه ( تعيين الخليفة ) إجماع كافَّة الخلق في جميع أقطار الأرض فإنَّ ذلك غير ممكن ولا مقدور لأحد من الأئمة، ولا فرض ذلك أيضا في الأعصار الخالية للأئمة الماضين، وباطل أن تعتبر إجماع جميع أهل الحلِّ والعقد في جميع أقطار الأرض، لأنَّ ذلك ممَّا يمتنع أو يتعذَّر تعذرا يفتقر فيه إلى انتظار مدّة عساها تزيد على عمر الإمام فتبقى الأمور في مدَّة الانتظار مهملة، ولأنَّه لمَّا عقدت البيعة لأبي بكر رضى الله عنه لم ينتظر انتشار الأخبار إلى سائر الأمصار، ولا تواتر كتب البيعة من أقاصي الأقطار، بل اشتغل بالإمامة وخاض في القيام بموجب الزَّعامة، محتكما في أوامره ونواهيه على الخاصَّة والعامَّة " .
المراجع:
1- نجد بواكير هذا الاهتمام على سبيل الذكر في كتابات الفارابي الّذي انشغلت فلسفته السياسيّة بالبحث في طبيعة أنظمة الحكم وأصنافها فقد بحث في "أصناف الاجتماعات …وأيّها عظمى وأيّها صغرى وأيّها وسطى وما الاجتماع المدنيُّ …وما المدينة الفاضلة….ثمّ أصناف الاجتماعات في المدن المضادّة للمدينة الفاضلة" الفارابي، كتاب الملّة و نصوص أخرى، تحقيق وتقديم وتعليق محسن مهدي، بيروت، دار المشرق 1991، ص 84 .
2- غنى عن البيان أنّ هذه المشكلة ليست خاصّة بالعرب فقد واجهتها شعوب كثيرة و أخرى فهذا أفلاطون يتساءل على لسان الأثيني:"إلى من يمكن أن ينسب فضل تنظيم قوانينكم أيّها السّادة؟ أترى ينسب لإله ما أو لبعض النّاس؟" القوانين، نقل محمد حسن ظاظا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1986 ص 83.
3- يعرف ابن خلدون الخلافة بأنّها "خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به" ابن خلدون، المقدمة، بيروت، دار الجيل، دون تاريخ، ص211. وهناك اختلاف حول ما إذا كان الخليفة خليفة الله أم خليفة رسول الله ففي الأحكام السلطانيّة نقرأ: "الإمامة موضوعة لخلافة النبّوة في حراسة الدِّين و سياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع وإن شذَّ عنهم الأصم": الماوردى ، الأحكام السلطانيّة ، تحقيق خالد عبد اللّطيف السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1990، ص 29 .
4- يحصر الغزالي الشُّورى الَّتي يقوم بها الأمير في القلَّة المحيطة به، إذ يرى وجوب "الاستضاءة بخاطر ذوى البصائر واستطلاع رأى أولى التَّجارب على طريق المشاورة وهي الخصلة الَّتي أمر الله بها نبيَّه، إذ قال وشاورهم في الأمر ثمَّ شرطه أن يكون المستشير مميِّزا بين المراتب، عارفا للمناصب، معولا على رأي من يوثق بدهائه وكفايته ومضائه وصرامته وشفقته وديانته، وهذا هو الركن الأعظم في تدبير الأمور فإنَّ الاستبداد بالرأي وإن كان من ذوى البصائر مذموم ومحذور وقد وفق الله الإمام بتفويض مقاليد أمره إلى وزيره الَّذي لم يقطع ثوب الوزارة إلاّ على قدّه حتَّى استظهر بآرائه السديدة": فضائح الباطنيّة، تحقيق وتقديم عبد الرحمان بدوى ، الكويت، مؤسسة دار الكتب الثَّقافيّة، دون تاريخ ، ص ص 185 186.
5- نلاحظ هنا أنّ أولئك الَّذين لا رأى لهم ولا خبرة ولا شوكة تكون مشورتهم ساقطة، حتّى أنَّنا نرى حجَّة الإسلام الغزالي يقول بخصوص النِّساء: شاوروهنّ وخالفوهنّ، للدلالة على فساد رأيهن و نقص خبرتهن ، التبرالمسبوك في نصيحة الملوك ، عرّبه عن الفارسيّة إلى العربيّة أحد تلامذته، ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدِّين، بيروت، دار الكتب العلمية، ص131، 1988.
6- الرَّاغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم / الدَّار الشَّاميّة، 2009، ص 470.
7- يذكر الماوردي أنّ "الإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحلِّ والعقد والثَّاني : بعهد الإمام من قبل" الأحكام السلطانيّة، مرجع سابق، ص 23. وفي تفصيل القول في آهل الحلِّ والعقد يذكر اختلاف العلماء في عددهم، فهناك من قال أنَّهم جمهور أهل الحلِّ والعقد ومن قال إنّه يكفي حضور خمسة منهم فقط، مستدلين ببيعة أبي بكر، الّتي تمَّت باجتماع رأي عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجرَّاح و أسيد بن حضير و بشر بن سعد و سالم مولى أبى حذيفة، كما يستدلُّ على ذلك أيضا بأنَّ عمرا جعل الشُّورى في ستَّة وأمرهم باختيار واحد منهم برضا البقيّة، وضيَّق بعضهم نطاق الشُّورى حتَّى أصبحت تعني رأى ثلاثة فقط فيتولاها واحد منهم برضا البقيّة، كما هو الحال في عقد النِّكاح حيث يقتصر الأمر على حضور ولى الأمر وشاهدين. وزاد آخرون على ذلك بالقول إنّه تكفي مشورة واحد فقط من المشهود لهم بالرفعة الدِّينيَّة، فقد بايع العباس عم الرَّسول عليا ابن أبي طالب فقد قال له: "أمدد يدك أبايعك، فيقول النَّاس عمّ رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان ولأنَّه حكم وحكم واحد نافذ" الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص 24.
8- الغزالي، فضائح الباطنية، مرجع سابق، ص ص 175 176 .
……………………………….
(2/2)
وتصبح المسألة أشدَّ إثارة للشُّكوك من حيث علاقة الشُّورى بالديمقراطيَّة إذا علمنا من جانب آخر أنَّه إذا كانت تلك الآيات تفيد أنَّ النَّاس يتشاورون في تدبير شؤونهم، بما يعنى أنَّ الحكم مسألة إنسانيَّة، فإنَّه توجد آيات تنصُّ على أنَّ الحكم لله وحده لا يشاركه فيه أي إنسان مثل: ( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) غافر/12، و( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يوسف/40، و(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) التِّين/8، و(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) الكهف/26، و( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) المائدة/50، فالحاكميَّة لله وحده في الحكم والتَّشريع، ممَّا يدفع إلى الذَّهاب بالاستنتاجات السَّابقة إلى مدى أبعد، حيث يفقد النَّبيُّ والخليفة والإمام سلطة اتِّخاذ القرار فالله هو الَّذي قرَّر وضمَن كتابه المقدَّس قراراته وما على الإنسان أي إنسان كان إلاَّ أن يطبق أوامره و نواهيه بحذافيرها بما في ذلك الرَّسول الَّذي ليس إلاَّ مُبلغا لرسالته وهو الَّذي ينسب إليه الحديث القائل: "إنَّ الله هو الحَكَمُ، وإليه الحكمُ".
ومن ثمَّة فإنَّ حلَّ هذه المتعارضات مهم جدًّا، باعتباره يمكننا من فهم كنه الشُّورى، فهل هي مجرَّد إبداء رأى يظلُّ في الأخير مفتقرا إلى الإلزام؟ ممَّا يعنى أنَّ الحكم لله، وبالتَّالي فإنَّ نظريَّة الحكم في الإسلام تظلّ مصادرها ما فوق بشريَّة، ومن هنا انفصالها التَّام عن الديمقراطيَّة. وفي مواجهة هذه المشكلات الَّتي لا تخلو من استعصاء كما بيناه تكتسب اجتهادات محمود محمد طه أهميّتها، وهي الصادرة عن شخص يفكِّر تحت وطأة التَّكفير ويلمع في وجهه سيف حدِّ الردَّة.
يرى المفكِّر السُّوداني أنَّ الديمقراطيَّة تستلزم اجتهادا دونما خوف من الوقوع في الأخطاء، لأنَّ ذلك الخوف معناه الجمود والبقاء بعيدا عن التَّفكير والممارسة سواء بسواء، فالديمقراطيَّة ثراء في النَّظر والعمل، ولا ينبغي للسُّلطة السياسيَّة أن تحجب تلك الآراء أو تحول دونها، لأنَّها إن فعلت ستكون سلطة قمعيَّة، بينما السُّلطة الديمقراطيَّة تنفتح على الآراء كافَّة، وتتيح لها المجال لكي تتبارى وتتلاقح فتزدهر، ففي ذلك تكمن حيويَّة المجتمع وفيها أيضا تكمن ضمانة تطوره، فأن نفكِّر ونخطئ أفضل من أن لا نفكر أبدا، لأنَّ الخطأ يعلمنا شيئا فشيئا كيف نشقُّ طريقنا إلى الصواب، وفي العمل فإنَّ من لا يعمل لا يخطئ، ولكنَّه يظلُّ جامدا في مكانه دون حركة، فيكون الركود والموات، أمَّا من يعمل فإنَّه يتعلَّم من أخطائه ويدرك في الأخير طريقه أيضا إلى الصواب، وهنا بالذَّات توفِّر الديمقراطيَّة مجالا رحبا لتطوير النَّظر والعمل.
وبهدف الحثِّ على العمل بالديمقراطيَّة وإيجاد تعريف لها يستنجد محمود محمد طه بالنَّبيِّ محمد، الَّذي يقول لملته إنَّ الاجتهاد واجب، والخوف من الوقوع في الخطأ ليس ذريعة للبقاء مكتوفي الأيدي تجاه المعضلات الَّتي تواجهنا ف:"الديمقراطيَّة هى حقُّ الخطأ، وفي قمَّة هذا التعريف جاء حديث المعصوم (يقصد الرَّسول):" إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم"1، فهي تعنى عنده أسلوب حكم يتعلَّم النَّاس خلاله الدروس من أخطائهم، فالإنسان قياسا إلى الحيوان يتعلَّم ويطوِّر معارفه وخبراته، وهو يخطئ ويصيب أثناء ذلك، وهذا ما تنميه الديمقراطيَّة فيه وتصقله فيشعر بقيمته وكرامته، أمَّا في الحالة المقابلة ، أي في حالة الدكتاتوريَّة فإنَّ قدرته على التفكير والممارسة بحريَّة تنعدم، فيتعطل تطوره على مختلف الأصعدة الفكريَّة والسياسيَّة والأخلاقيَّة ف" على العكس من الديكتاتوريَّة نجد أن الديمقراطيَّة قائمة على الحقِّ في ارتكاب الأخطاء، وهذا ليس معناه الرغبة في الخطأ من أجل الخطأ، وإنَّما اعترافا بأنَّ الحريَّة توجب الاختيار بين السبل المختلفة للعمل ولا يمكن للإنسان أن يكون ديمقراطيًّا حقًّا دون أن يتعلَّم كيف يختار وأن يحسن الاختيار في ذلك وأن يصحح باستمرار خطأ الاختيار، الَّذي يبدو منه الفينة بعد الفينة "2.
واللاَّفت هنا هذا المديح الَّذي يكيله طه للخطأ، في مجتمع يرتجف أفراده عادة أمام إمكانيَّة الوقوع فيه، فهم يتصرفون وفق ثنائيات الحلال والحرام والمقدَّس والمدنس والفضيلة والرذيلة والنِّعمة والنِّقمة والعصيان والطَّاعة والكفر والإيمان والهدى والضلال إلخ …
وتقتضى الديمقراطيَّة برأيه المساواة بين النَّاس، بغض النَّظر عن الاختلافات في الانتماء الدينيِّ والقوميِّ والجنسيِّ واللُّغويِّ والطبقيِّ، طالما أنَّ الأساس في المساواة بين البشر هو امتلاكهم العقل ولا شئ غيره، وبدون تلك المساواة تنعدم الديمقراطيَّة، إذ"تعدُّ المساواة الأساسيَّة بين كافَّة النَّاس مظهرا من أهمِّ المظاهر للمذهب الديمقراطيِّ. فالنَّاس من حيث هم ناس، مهما فرقت بينهم فوارق الجنس، أو اللَّون، أو اللُّغة، أو الدين، أو القوميَّة، أو الطبقة فإنَّ هناك شيئا أساسيًّا مشتركا بينهم، هو العقل.. والقدرة على التفكير"3.
وهو يبحث بذلك عن أساس مشترك تقوم عليه الديمقراطيَّة ، في مجتمع تتحكَّم فيه تمايزات عميقة، تجعل الانتماء الطائفيَّ أو المذهبيَّ أو الدينيَّ إلخ … مدخلا ممكنا لتقسيمه، أي إنَّ محرك كلامه ودافعه هو توحيد ذلك المجتمع و الحيلولة دون تفتته وهو الأمر الَّذي لا يمكن إدراكه إلاَّ بإتباع سبيل الديمقراطيَّة، ف" الديمقراطيَّة هي حكم الشَّعب بواسطة الشَّعب لمصلحة الشَّعب "4، وهي برأيه ليست جوهرا ثابتا من حيث دلالتها، فقد خضعت لتطورات متلاحقة في تناسب مع تغيّرات الواقع الاجتماعيِّ السياسيِّ، ففي الديمقراطيَّة النيابيَّة يعنى الشَّعب المواطنين الراشدين كافَّة، وهم الَّذين يحقُّ لهم اختيار طريق عيشهم، وهو يفرق هنا بين التَّطور الكميِّ والتَّطور النَّوعيِّ اللَّذان يؤسِّسان للديمقراطيَّة، مُعتبرا أنَّ التَّطور الكميَّ قد أنجز وهو يعنى به وجود مواطنين متساوين حقوقيًّا، أمَّا التَّطور النَّوعيُّ فيقصد به تثقيف الشَّعب إذ"الحكم الديمقراطي لا يمكن أن يحقِّقه شعب جاهل"5، مفرقا هنا بين التَّعليم والثَّقافة، فليس كلُّ متعلم في المدارس والمعاهد والجامعات مثقّفا بالضرورة فالديمقراطيَّة كأسلوب حياة لا تتطلَّب فقط وجود مواطنين متساويين حقوقيًّا وإنَّما أيضا مواطنين مثقَّفين، ف" فليست الديمقراطيَّة أن تكون لنا هيئة تشريعيَّة، وهيئة تنفيذيَّة، وهيئة قضائيَّة، وإنَّما جميع أولئك وسائل لتحقيق كرامة الإنسان .. فإنَّ الديمقراطيَّة ليست أسلوب حكم فحسب، وإنَّما هي منهاج حياة، الفرد البشري فيه غاية، وكلّ ما عداه وسيلة إليه ". 6
والحريّة الفرديَّة هي مرتكز هذه الديمقراطيّة المنشودة، وهي شأن شخصيٌّ خالص لا تتدخل فيه أيّة قوَّة مهما كانت مكانتها بما في ذلك النَّبي7، على رفعة شأنه وعلو قدره عند الله وعند المؤمنين، إذ لا وصي عليها ف" من كرامة الإنسان عند الله أنَّ الحريَّة الفرديَّة لم يجعل عليها وصيًّا، حتَّى ولو كان هذا الوصيُّ هو النَّبيَّ على رفعة خلقه وكمال سجاياه . فقد قال تعالى في ذلك ((فذكر إنَّما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر))، والمعنيون هنا هم المشركون، الَّذين رفضوا عبادة الله، وعكفوا على الأصنام، يعبدونها، ويتقربون إليها بالقرابين، والمنهي عن السيطرة عليهم هو الرسول محمد "8، فإذا كان النَّبيُّ نفسه ليس وصيًّا على النَّاس فكيف لغيره أن يزعم امتلاك تلك السّلطة؟ وإذا كان المشركون أحرارا في اختيار ما شاؤوا من ضروب الإيمان فكيف يفرض فريق من المسلمين على غيره ممَّن يشاركونه العقيدة ذاتها اجتهاداته وتأويلاته ويكفرهم باسم الله ويحرمهم من ذلك الحقّ؟ فالحريَّة شأن شخصي كما ذكرنا والمؤتمن عليها هو الفرد نفسه وهو الَّذي يسأل عن تصريفه لها أمام الله، فهي ليست حقًّا فقط بل واجب أيضا، بمعنى أنَّ الفرد معنى بتعهدها بحسن التدبير نظرا، وسلامة التَّطبيق عملا، فهذا أفق التَّاريخ الَّذي ينبغي أن تدركه الإنسانيَّة، و ليست المراحل السَّابقة إلاَّ تمهيدا له.
ويصدر تفكير محمود محمد طه هنا عن نزعة ليبراليّة وإنسانويَّة واضحة المعالم فهو يتَّجه ناحية تحديد منزلة الإنسان في الكون و تعريفه من خلال الرِّسالة المعهود له تطبيقها، وتشريفه بالأمانة الَّتي وضعها الله بين يديه، وهذا كلُّه في ارتباط لا تنفصم عراه مع الحريَّة الفرديَّة كما ألمحنا إلى ذلك، فالإنسان محور يدور حول نفسه كما تدور مختلف الظواهر في العالم حوله، فهي مسخرة له والدين نفسه جعل لخدمته، وهنا يفرق بين مراحل ثلاث يجتازها الإنسان بالقول إنَّ" لدينا ثلاث مراحل لنشأة الإنسان، مرحلة الجسد الصرف، ومرحلة الجسد والعقل المتنازعين، وأخيرا مرحلة الجسد، والعقل المتَّسقين. وأمَّا مرحلة الجسد والعقل المتنازعين هي مرحلة البشريَّة، منذ بدء الخليقة، وإلى اليوم.. وأمَّا مرحلة الجسد والعقل المتَّسقين، فهي مرحلة الإنسانيَّة، الَّتي هي قبلة البشريّة الحاضرة، منذ اليوم، وليس لها منها بدّ"9 هذا على صعيد تطوّر الإنسان، أمَّا على مستوى تاريخيَّة الدَّعوة الإسلاميَّة فإنَّه بفرق بين مجتمع المؤمنين ومجتمع المسلمين، ففي مجتمع المؤمنين كان النَّاس قاصرين، غير مثقَّفين، فلم يدركوا معنى الحريَّة، فكان أن جعل الله النَّبيَّ وصيًّا عليهم، بهدف تربيتهم، وبالتَّالي إعدادهم لتحمل المسؤوليَّة الفرديَّة، فكانوا يخطئون ويصيبون والنَّبيُّ يرشدهم، مانحا إيَّاهم حقَّ الخطأ دون فظاظة أو غلظة كما ذكرنا، وعندما تستنفد تلك المرحلة غرضها يكون مجتمع المسلمين حيث الفرد كما ألمحنا إلى ذلك مسؤولا مسؤوليَّة مطلقة عن حريَّته، فمجتمع المؤمنين شوروى بينما مجتمع المسلمين ديمقراطيٌّ.
ونخلص من ثمَّة إلى معنى الشُّورى، فهي برأيه إعداد للديمقراطيَّة وليست الديمقراطيَّة، إنَّها فرع وليست أصلا، وآية الشُّورى لا تنصُّ على الديمقراطيَّة والشَّريعة نفسها ليست ديمقراطيّة، يقول:"الشُّورى ليست أصلا، وإنَّما هي فرع وهي ليست ديمقراطيّة، وإنَّما هي حكم الفرد الرشيد الَّذي يعدُّ الأمُّة لتصبح ديمقراطيّة".10 وهكذا ينتقد التّصور الرَّائج في الفكر الدينيِّ الإسلاميِّ القائل بالتَّماهي بين الشُّورى والديمقراطيّة، مانحا الشُّورى دلالة جديدة مختلفة تماما تصبح بموجبه ممهِّدة للديمقراطيَّة وعتبة تفضي إليها، أي إنَّه يتجاوز ذلك التَّطابق ليؤسِّس لعلاقة جديدة تقوم على التَّغاير ولكن دون نفي بالمعنى السَّالب وإنَّما تجاوز بالمعنى الموجب، فالشُّورى هي حكم الفرد الرشيد الَّذي يمهِّد السَّبيل إلى الديمقراطيَّة باعتماد آليات سياسيّة محدَّدة، فالله"جعل (النَّبيَّ) وصيًّا على القصَّر وأمر بترشيدهم حتَّى يكونوا أهلا للديمقراطيَّة بنهوضهم إلى مستوى حسن التَّصرف في الحريَّة الفرديَّة المطلقة "11. ففي الديمقراطيَّة النَّاس كلُّهم سواسية من حيث إبداء الرأي والمشاركة في اتِّخاذ القرارات كما مرَّ معنا ذكره، أمَّا خلال الشُّورى فإنَّهم مراتب، فهناك البالغ أو الرَّاشد وهناك القاصر، لذلك يتوجَّب ترشيد القاصرين وتربيتهم وتعليمهم كيف يفكِّرون ويعملون، أي كيف يحسنون التَّصرف في الحريَّة الَّتي تمنح لهم، وعندما ينجحون في الاختبار يصبحون أهلا للديمقراطيَّة ووقتها ينتهي حكم الفرد الرشيد ليبدأ حكم الجماعة الواعية والمسؤولة والحرَّة. والمفارقة هنا أنَّه يري أنَّ مجتمع المسلمين/المجتمع الديمقراطي سابق لمجتمع المؤمنين/المجتمع الشوروي وأنَّ المطلوب الآن استعادة المجتمع الأوَّل، ممَّا يضفي على تفكيره طابعا سلفيًّا من نوع خاص.
المراجع :
محمود محمد طه ، الرسالة الثَّانية من الإسلام، الخرطوم 1969، ص 186. و نلفت عناية القارئ هنا إلى أنَّنا سنعتمد في الإحالة على كتابات المؤلف ما تضمنه الموقع الالكتروني الخاص بذلك وهو : http://www.alfikra.org/books مع الملاحظ أنَّه لا يذكر دار النشر.
2 محمود محمد طه ، الرسالة الثانية من الإسلام ، ص ص 185 186.
3 محمود محمد طه ، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان 1-الثَّقافة الغربيَّة 2-الإسلام ، الطبعة الثّانية، ص12.
4 محمود محمد طه ، الديباجة ، 30 أكتوبر 1984 ( ألف طه هذا الكتاب في المعتقل سنة 1984أي قبل إعدامه بوقت وجيز وصفحاته غير مرقمة ).
5 المصدر نفسه .
6 محمود محمد طه ، الرسالة الثَّانية من الإسلام ، ص ص 184185.
7 يقول محمود محمد طه" ليس هناك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريَّات الآخرين" المصدر نفسه، ص 187.
8 المصدر نفسه، ص 186.
9 محمود محمد طه، الديباجة.
10 محمود محمد طه، الرسالة الثَّانية من الإسلام، ص 188.
11 المصدر نفسه، ص 187 .
(منقول).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.