ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة الاعتبار لمبدأ المركزية الديمقراطية!!
نشر في حريات يوم 29 - 02 - 2016


المبتدأ:
"إياكم والتنازل النظري؛ إياكم والمساومة على المبادئ" كارل ماركس.
الآنَ يَكْتَمِلُ نَسِيجُ الْمَؤَامَرَةِ
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى ارْتِقَائِكَ
دَرَجَ الْمَقْصَلَةِ
لَقَدْ اعْتَادَ الْقَوْمُ نَحْرَكَ
كُلَّمَا نَضِجَتْ سَنَابِلُ قَمْحِكَ
قُرْبَانًا لِرَبِّ الزَّلْزَلَةِ
والخبر:
(1)
نقيع كثيف يثار هذه الأيام حول الأوضاع الداخلية في الحزب الشيوعي السوداني جلُّها من المهتمين بأمره من خارج مضاربه، وهي مقاربات نقدية وتحليلية لوضع داخلي لحزب يحكمه دستور منظم، وضابط لعمله، وبرنامج يرسم معالم خطه السياسي، قد أقرَّ ديمقراطيا بعد مداولات قواعده من قبل أعلى سلطة تحكم قراراته، ألا وهي المؤتمر العام. ولاشك أن جل هذه المقاربات حادبة على مصلحة الحزب، هذا إذا ما غض النظر عن تلك التي لها مآرب أمنية تخريبية، أو ذاتية تحاول التقاط السانحة تصفية لحسابات قديمة، والنوعان الآخران هما ما نحاول لفت نظر الرفاق في الحزب الشيوعي إليهما لخطورتهما وتعمدهما الإساءة، ومحاولة هدم كيان سياسي ظلت له إسهامات مقدرة في تاريخ السودان الحديث، ويعتبر بلا أدنى مزايدة من أهم أعمدة استقرار الوطن، أما النوع الأول فيجب أن يتقبله الرفاق في القيادة والقواعد بصدر رحب، ويمعنوا النظر في محتوياتها، ولا تهمل غضبا، أو ترفعا؛ عملا بالمثل الشعبي السوداني الحكيم (اسمع كلام من يبكيك ولا تسمع كلام من يضحكك).
(2)
ركبت معظم المقاربات ذات المآرب قطار الحرص على الديمقراطية، وزرفت دموعًا غزيرة على ذبحها على مذبح حزب الطبقة العاملة، حيث كيلت التهم وصرفت بالمجان في حق الحزب الشيوعي السوداني، وتم إلباسه عنوة لباس الإستالينية، وهو ادعاء يكذبه تاريخ الحزب، وتدرج دستوره وبرنامجه الحثيث نحو أفق الديمقراطية، والذي يراه كل باحث محايد مهتم بأدبيات ووثائق الحزب التي تصدر عقب كل مؤتمر عام يعقده بدءًا من مؤتمره الأول عام 1950م والثاني في أكتوبر 1953م ثم الثالث عام 1956م والرابع في أكتوبر 1967م وانتهاء بالخامس الذي عقد في يناير 2009م بعد انقطاع يصعب تبريره، رغم الظروف القاهرة المعلومة الذي تجاوز الأربعين عاما حيث تم تقييم وتقويم دستور الحزب وبرنامجه في كل هذه المؤتمرات بما يدعم إرساء دعائم الممارسة الديمقراطية داخل أطر وهياكل الحزب، وقد حفل الدستور والبرنامج في كل مرحلة من هذه المراحل بإضافة بنود ومواد جديدة تعكس تطور الحزب وتعزز من النهج الديمقراطي داخله، بينما ظلت الأسس الفكرية والنظرية التي تحكم الدستور والبرنامج مستوحاة من تجربة الحزب الذاتية باعتباره حزبا ثوريا سودانيا تنبع تقاليده وتنطلق من واقع تربته الوطنية الخالصة، هذا بجانب النظرية الماركسية كمنهج ثوري لدراسة الواقع واستيعابه ومن ثم العمل على تغييره سلميا بنشر الوعي وسط جميع طبقات المجتمع التي تستمد الطبقة العاملة وتكتسب وعيها منها.
(3)
تولد وتتطور المبادئ والقواعد المنظمة لأي تنظيم ثوري في خضم الصراع الفكري والسياسي والتنظيمي الذي يخوضه ضد الاتجاهات التي ترفض وجود تنظيم قوي للطبقات المسحوقة وتدعو لبديل تنظيمي فضفاض يفتقر إلى الانضباط وغير فعال في الصراع الاجتماعي؛ لذا نجد أن مداخل أعداء الحزب الشيوعي والعاملين بجد على هدم كيانه يأتي من بوابة مبدأ المركزية الديمقراطية، باعتبار أنه روح الانضباط الثوري الواعي الذي يقي الحزب شر الاختراقات والانحرافات، والمستهدف بالهدم في حقيقة الأمر هي نظرية التنظيم الثورية، التي تضبط إيقاع النشاط الحزبي، وتجعله حائط صد قوي وفعال في وجه مخططات الامبريالية والرأسمالية المتوحشة؛ لذا نجد أن الهجوم على مبدأ المركزية الديمقراطية يغلف بخدعة الحرص على الديمقراطية من قبل مثقفي تغبيش الوعي الطبقي، ويتخذ منحًى فاجرًا يصور مبدأ المركزية الديمقراطية على أنه شر مطلق بل يصل الخطل لدرجة شيطنته وتحميله كافة موبقات العمل التنظيمي داخل أحزاب اليسار الثوري، وهذا هراء وتحامل لا يمت لفلسفة المبدأ ولا للهدف الذي من أجله قد وضع، وأصحاب الغرض في هذا الشأن يتجاهلون عمدًا المقصد الفلسفي الذي ربط بين المركزية والديمقراطية، وجعلهما متلازمتين في سياق مبدأ وأحد، تحاشيا لطغيان المركزية على الديمقراطية وقمع الرأي الآخر.
(4)
تعدّ المسألة التنظيمية من أهم المسائل التي تواجه الأحزاب الثورية باستمرار، ويعدّ الاهتمام بها والنجاح في تطبيق أصولها من أهم الشروط اللازمة لقيام تنظيم سياسي قوي يمارس كامل نشاطاته على أساس من الوحدة التنظيمية المدعمة بالوحدة الفكرية، والسياسة المركزية الديمقراطية تشكل العمود الفقري لبناء الوحدة التنظيمية لهذه الأحزاب التي يتم الانتماء لها طوعًا واختيارًا، وبصورة فردية، وطريقة الانتماء هذه في حد ذاتها تعد مظهرا من مظاهر الديمقراطية التي تترسخ وتتعمق من خلال ممارسة نشاطات الحزب على أساس يكفل إطلاق المبادرات الثورية لجميع هيئاته ومنظماته وأعضائه على أوسع مدى، والديمقراطية تعطي الحق للعضو مناقشة سياسة الحزب، وتفسح المجال لوضع رأيه فيها، وتطبيق تجربته عليها، ويوضح ما يراه من نواحي صوابها وخطئها، فهي تعطيه الحقَّ في ممارسة حقِّ التعبير الحر عن الرأي، وتحقيق أوسع مشاركة في نشاطاته المختلفة؛ وليس الهدف من المركزية فرض الوصاية والروح الأبوية على القواعد، ولا تكميم أفواه العضوية، وخلق شكل من أشكال الدكتاتورية، كما يشاع، إنما الهدف من المركزية هو توفير وحدة التنظيم ووحدة الاتجاه، ووحدة أشكال العمل والنشاط وأساليبها، ومنع كل مظاهر الانحراف عن سياسة الحزب وعن وحدته التنظيمية والفكرية والسياسية، وضمان الالتزام والانضباط على سائر المستويات في تنفيذ سياسة الحزب العامة، فالمركزية تكرس مبدأ التمركز في بنيان الحزب الفكري والتنظيمي والسياسي، وتراعي مبدأ الالتزام والانضباط الحزبي.
(5)
يُعدّ تطبيق مبدأ المركزية الديمقراطية في حياة الأحزاب الثورية الشرط الأهم لبناء الحزب وتربية أعضائه وتثقيفهم وتكوين الملاكات القائدة وتطويرها واختبارها، وهو شرط لاستمرار حياة الحزب واستمرار نشاطه بين الجماهير، فروح وجوهر هذا المبدأ يتجلى بتحقيق وترسيخ وحدة الإرادة والعمل فيه، وبذل المزيد من النشاط والحيوية لتقوية بنيان الحزب وتعزيز صلته بالجماهير وزيادة نفوذه في أوساطها، وانعدام ذلك المبدأ في صفوف الحزب الثوري يؤدي إلى انعدامه بين الجماهير، وبالتالي إلى انقسامه وتفككه وبعثرة إرادته المعبرة عن إرادة الجماهير، وبالتالي يفقد أهم سبب وجوده؛ فالمركزية والديمقراطية مفهومان مهمان لبناء الحزب الثوري وأسلوب نشاطه، وإن عارض كلاًّ منهما الآخر فهما متحدان ويتمم كل منهما الآخر ويشكل معه وحدة لا يجوز فصل عراها ، لأن الحرية التي يعبر عنها بالديمقراطية لا غنى عنها والنظام والالتزام والانضباط الذي يعبر عنه بالمركزية لا تقوم بدونه قائمة، فالديمقراطية تكفل حرية أعضاء الحزب وتفسح المجال أمامهم لممارسة حقهم في المناقشة والاقتراح والنقد الذاتي وانتخاب القيادة التي تعبر عن إرادة الحزب وتتحمل المسؤولية؛ أما المركزية فهي ضرورة ثورية يمليها الحرص على وحدة الحزب تنظيمياً وفكرياً وسياسياً وعلى تعزيز السلطة المركزية فيه بما يمكنها من بناء الحزب وقيادته وتنفيذ إستراتيجية ومقررات مؤتمراته، على أن تكون تلك المركزية هي نتاج تحقيق الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة وواعية؛ فتطبيق هذا المبدأ على الوجه الصحيح بتحقيق الديمقراطية في ظل المركزية يشير إلى العلاقة الجدلية والارتباط العضوي بين المفهومين.
(6)
ولا شك أن العلاقة الجدلية بين مكوني مبدأ المركزية الديمقراطية والتعارض في مفهومهما تستدعي الحرص على التوفيق بين مفهومي الديمقراطية والمركزية حيث لا يطغى أحد المفهومين على الآخر، سواء بأن تتحول المركزية إلى ديكتاتورية أو تتحول الديمقراطية إلى نوع من الفوضى أو الثرثرة النظرية؛ فالديمقراطية يجب ألا تؤدي إلى الفوضى والتسيب والسماح بالدعوة للآراء والأفكار المعادية للحزب أو السماح بوجود تكتلات داخله، همها التعريض بسياسته وممارسة النقد بصورة غير مشروعة، أو ممارسة أعمال التخريب ونشر الفوضى أو البلبلة والتفكك في صفوفه؛ كما أن التركيز الشديد على المركزية وغلبتها على مبدأ الديمقراطية يجر الحزب إلى فرض ديكتاتورية بشكل من الأشكال، أو لفرض أساليب ملتوية بعيدة عن روح الديمقراطية المركزية وجوهرها، فيضعف تبعا لهذا الحزب وتتعطل فعاليته ويتهدد وجوده، كذلك يؤدي التركيز على المركزية إلى ظهور البيروقراطية التي قد تحول المركزية إلى مجرد أداة لإصدار أوامر وتعليمات بعيدة عن روح التفاعل وعلاقة الثقة بين القيادات المتسلسلة وبين المنظمات الأدنى والقواعد الحزبية، وبعيدة عن ممارسة القيادات لدورها الفعلي في حياة الحزب، والذي قد يحول الانضباط والالتزام والطاعة الحزبية إلى مجرد تنفيذ شكلي وطاعة عمياء بعيدة عن روح المبادرة والمشاركة الواعية والنشاط الفعال والعمل الموحد لمجموع الحزب، فيتحول الثوار تدريجيا لحواريين مدجنين، أو باشكتبة بيروقراطيين ويتحول الحزب الثوري لطائفة تخضع لسطوة الأبوية المطلقة.
(7)
منتقدو مبدأ المركزية الديمقراطية من قوى الرأسمالية قد وجدوا ضالتهم في سوء التطبيق لهذا المبدأ الذي لازم التجربة السوفيتية المنهارة حيث طغت المركزية على الديمقراطية، ولم تستطع الأحزاب الشيوعية في ظل تجربة الكتلة الاشتراكية تحقيق التوازن المنشود بين المفهومين على الرغم من أن الفهم "اللينيني" للمبدأ هو ديمقراطي في أساسه، فالديمقراطية هي التي يجب أن تحرك وتفعّل العمل الحزبي والجماهيري لا المركزية التي يقتصر دورها فقط على الحفاظ على وحدة بناء الحزب؛ ومن الحماقة دون ريب إغفال مثل هذا الانتقادات المدعمة بالتجربة العملية فقد وقعت معظم الأحزاب الشيوعية في ظل التجربة الاشتراكية المنهارة في فخ تغليب المركزية على الديمقراطية مما أعطى انطباعا بأن معضلة مبدأ المركزية الديمقراطية تكمن في إلزامية قرارات الهيئات الأعلى بالنسبة إلى الهيئات الأدنى في ظل شكل التنظيم الهرمي الذي يحرّم نقل الآراء التي لا تنسجم مع الرأي السائد أفقيًا، ويسهّل إيصال الرأي الأوحد من الأعلى إلى القاعدة، ويسمح صوريًا فقط بنقل الرأي الآخر من القاعدة إلى القيادة، مما يعني أن المبدأ يحمل ميلاً إلى المركزية أكثر مما يحمل ميلاً إلى الديمقراطية، وبهذا يستطيع التأثير السلبي في أكثر الشيوعيين سماحة وديمقراطية وتحويلهم إلى ديكتاتوريين متى ما تبوَّؤوا مراكز القيادة.
(8)
تبدو الآراء الناقدة لمبدأ المركزية الديمقراطية منطقية ومتماسكة وتدعمها شواهد التطبيق شكليا بَيْدَ أنها تتجاهل المغزى النظري للمبدأ القائم على احترام حرية العضو في المشاركة في حياة الحزب ومصيره، والانتخاب الواعي للقيادات العليا من القواعد، مقابل تحمل تلك القيادات المسؤولية الحزبية أمام مؤتمراتها، والمؤسس أيضا على أن رأي الأكثرية هو رأي الحزب مع احترام رأي الأقلية، وعند تأملنا لهذا يتَّضح أن الخلل ليس في مبدأ المركزية الديمقراطية؛ بل في عدم الفهم الواعي لمكوناته، مما يؤدي إلى سوء تطبيقه، ولضمان عدم انحراف المبدأ عن جوهره النظري يجب التشديد على التوازن والتفاعل الخلاق بين مكونيه، فلا يوجد تنظيم؛ حزبياً كان أم مؤسسة ، يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً من دون أن يكون له مركزٌ يقوده. والمهم كيف يتشكلُ هذا المركزُ، وكيف تصاغ التوجيهات التي ينفذها، وما هي الآليات التي تضمن مراقبة عمله، وإن تطوير الديمقراطية المستمر وتكوين الآليات الواقعية والممكنة في ظروف كل بلد، هي المسؤولة عن حماية الحزب من أن يتحول إلى بيروقراطية مدمرة تؤدي بحياته، والديمقراطية هذه يجب أن تفرضها الجماهيرُ على القيادات في المجتمعات والأحزاب، لذلك تم التأكيدُ على أن الديمقراطيةَ هي التي يجبُ أن تحركَ وتفعلَ المركزيةَ وليس العكس، وتظلُّ العبرةُ في نهاية الأمر في مضمون الممارسة وليس في التسمية، كما يظل لكل حزب ثوري خصوصيته وتجربته التي يؤثر فيها ويتأثر بها واقعه الوطني، أما محاولة استيراد إخفاقات أحزاب شيوعية لمحاكمة الحزب الشيوعي السوداني على ضوئها فهذا خطلٌ وضعفُ بصيرةٍ وَقَعَ وَيَقَعُ فيه كثيرٌ من مبطلي الماركسية في السودان.
(9)
المراقب المطلع على تطور برنامج ودستور الحزب الشيوعي السوداني عبر مراحله التاريخية المختلفة يرى بوضوح أنهما قد شهدا تطورا ملحوظا، وقد أولت قضية الديمقراطية حيِّزا مقدرا من الاهتمام، ولعل الحزب الشيوعي السوداني قد استفاد في ذلك من خاصية مهمة ميزته عن بقية أحزاب المنطقة، وهي استقلال قراره عن مركز اتخاذ القرار في موسكو، فحينما كانت معظم الأحزاب الشيوعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالكرملين وتهتدي بهديه في كل حركاتها وسكناتها كان الحزب الشيوعي السوداني يغرد خارج السرب بما يتوافق ومصالح وطنه وشعبه، وقد أرسى الرعيل الأول المؤسس لهذا الحزب العملاق هذا النهج الوطني الرشيد، وتمسكوا به على رغم من أنه قد حدَّ من استفادة حزبهم من المقدرات المادية المهولة للكتلة الاشتراكية، وجعل العلاقة بينهما فاترة إلا أنه من جهة أخرى كان لهذا الاستقلال انعكاسات ايجابيات عظيمة عززت من مصداقية الحزب بين الجماهير، وأفشلت مؤامرات التيارات اليمينية الرامية لإلصاق فرية "العمالة" به؛ لإزاحته عن الساحة السياسية السودانية، والاستفراد بالطبقة العاملة والطبقات المسحوقة، وجرها لدائرة الاستغلال الرأسمالي البشع، فقد طاشت سهام هذه المؤامرات الخبيثة والدعاية المغرضة بسبب توجهات الحزب الوطنية، وأثبتت الأيام أن جذور الحزب الشيوعي ضاربة بعمق في التربة السودانية، وأنه حزب وطنيٌ تنبع استراتيجياته من صميم سودانيته وتراعي تكتيكاته السياسية مصالح وتقاليد وأخلاق شعبه.
(10)
إذن مرد حالة الضعف والانفلات التنظيمي في دهاليز الحزب الشيوعي لا تعود إلى ضعف الممارسة الديمقراطية الداخلية ولا إلى جمود لائحته التنظيمية التي تثبت الوثائق أنها متطورة باضطراد في اتجاه تقليص القبضة المركزية لصالح آفاق أرحب من الممارسة الديمقراطية، ولكن تعود لعوامل أخرى من أهمها ضعف وعدم تجانس القيادة الحالية، وإهمال مبدأ المركزية الديمقراطية الذي يعتبر مبدأ حيويا للتنظيم الثوري، يقيئه غائلة الشرور والأمراض التي نراها تعصف اليوم بجسد الحزب الشيوعي، كالاختراقات التي لم تستبعد حدوثها القيادة، والانفلات والثرثرة الظاهرة للعيان في مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية، وشيوع أدب بائس وبذئ في الخطاب، ونقد القيادة والمؤسسات الحزبية، وغيرها من ممارسات ضارة بالحزب وسمعته. إن عدم الصبر على التطور التدريجي للدستور ومحاولة القفز مرة واحدة لئمَّ الديمقراطية المتلاطم لحد إهمال مبدأ مهم من مبادئ بناء التنظيم الثوري كمبدأ المركزية الديمقراطية ابتغاء مرضاة صرعة ما هو المسؤول عن الانفلات التنظيمي الذي نلاحظه يعصف بالحزب؛ فليس من العقل ولا المنطق التخلص من مبدأ المركزية الديمقراطية هكذا فجأة، بل المطلوب -كما أوضحنا آنفا- الفهم الواعي لمكوناته، والتشديد على التوازن والتفاعل الخلاق بين عنصري المركزية والديمقراطية؛ لضمان عدم الانحراف عن جوهر المبدأ وهدفه عند التطبيق، فقط لا غير، والمضي قدما في اتجاه التطور المتدرج لإنضاج الممارسة الديمقراطية الداخلية واحتلالها لمساحات أوسع على حساب المركزية.
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.