في الوقت الذي تحزم فيه مجموعة كبيرة من الأطباء حقائبها للهجرة خارج البلاد بعد أن ضاقت عليهم بلادهم وضنت عليهم حكومتهم بما يحفظ كرامتهم ويفي ولو بالحد الأدنى من تطلعاتهم المشروعة، في هذا الوقت هناك آخرون في الأقاصي يتعرضون للضرب والإهانة وهذا من مفارقات الزمان ومحن الحكومة التي يصدق عليها قول (رضينا بالهم والهم ما راضي بينا)، فأن يظل طبيب رغم كل الظروف السيئة التي يعانيها الاطباء والبيئة المتردية التي تشكو منها المستشفيات الحكومية بالاخص، يثابر ويصابر ويصبر على العمل في وسط هذه الظروف داخل بلاده، وأين في أقاصي غربها، مثل هذا الطبيب الذي يستحق عن جدارة كل تكريم وتبجيل واحترام إذا لم يجد من ذلك حبة خردل وإنما وجد بدلاً عنه الضرب والركل والشتم والسب، ومن من؟ من أحد أفراد القوات النظامية وليس البلطجية، وعلى من؟ على طبيب يحمل رتبة ملازم أول، فماذا سيبقى للأطباء بعد ذلك ليبقوا داخل بلدهم، هل يبقوا لتلقي المزيد من الصفعات والركلات والإهانات على خد، وهضم حقوقهم المشروعة والزراية بمطالبهم العادلة على الخد الآخر، الحكومة من أمامهم وبعض المتفلتين من أفراد القوات النظامية من خلفهم، إنها عملية دفع رباعي لمغادرة البلاد واللحاق بمن هاجروا من قبيلتهم المهنية، فهل هذا ما يُراد بهم، ومن يمارس مهنة الطبابة بعد أن تفرغ البلاد من أطبائها، هل يمارسها المستشار الرئاسي مصطفى عثمان اسماعيل والقيادي الحزبي ابراهيم غندور ام ترى سيمارسها التاجر الشاطر المتعافي، هؤلاء الأطباء الذين استطيع أن أجزم بأنهم كانوا سيكونوا على رأس إحتجاجات الأطباء وإعتصاماتهم على سوء أحوالهم وأعمالهم ومعاملتهم لولا قدر الله الذي جعلهم حكاماً وساسة تنكروا لاصلهم وانغمسوا في أدوارهم الجديدة.. ومن عجائب ظاهرة الاعتداء على الأطباء التي تكررت في أوقات متفرقة وفي أماكن مختلفة من البلاد، أنها توالت بشكل لافت في الآونة الاخيرة ببعض مدن ولايات دارفور الكبرى كان آخرها ما نحن بصدده وهو ما حدث الاسبوع الماضي بمدينة الضعين بولاية جنوب دارفور حيث إعتدى أحد أفراد القوات النظامية على طبيب يعمل بمستشفى المدينة ويحمل رتبة ملازم أول لم تشفع له حتى هى من تشفيات هذا الجندي، فتأمل هذه الفجيعة التي ضربت قيمتين بركلةٍ واحدة، فجيعة الضرب نفسه وفجيعة اختلال القيم والموروثات العسكرية، ولا غرابة فهى من صنع الانقاذ (والتسوّي كريت في القرض تلقى في جلدها)، فحين (هبت ثورة الانقاذ) أصبح كل شيء في غير مكانه، الشاويش أصبح مدير، و(الازبليطة) صار قائد أورطة، والموظف الصغير يهرش الوكيل وهكذا تطبع هذا الجندي بهذه (الطبعة) الانقاذية، الآن وبعد أن رفع أطباء الضعين إضرابهم الاحتجاجي على إهانة كرامتهم بالضرب المهين الذي تعرض له أحد زملائهم والذي هو للمفارقة زميل لكل منسوبي القوات النظامية، الى من يمكن أن ترفع هذه القضية لوضع حد نهائي لها بعد أن لم تسفر كل الاحتجاجات السابقة عن شيء سوى الاستمرار في هذا السلوك المشين…