البنسلين يا تمرجي ! عوض محمد الحسن لا بأس (أو الحقيقة لا مناص) من التكرار إذ ليس هناك من جديد يُقال. رحم الله مختار، مارشال المديرية، الذي عطّر وسط الخرطوم في منتصف القرن الماضي بثاقب رؤيته وبحكمته التي لم يفطن لها أحد. كان يطوف في وسط المدينة وفي ردهات المديرية، ويقول : "الأمور أصبحت غير مُدركة !" نظر البعض إليه في زيّه العسكري النظيف، ونياشينه المُزيفة التي تُغطي صدره، وحسبوا قوله هذيان من به مسٌ، وما دروا أنه يرى ببصيرته بداية المنزلق ، وما درى هو إلى أي حد ستكون الأمور غير مدركة في هذا الزمن الأغبر. ورحم الله عمّنا الزين حسن الذي شهد إحدى عجائب هذا الزمن في بدايات هذا العهد السعيد، فهمْهمْ في حيرة: "إنعل أبو الفاهم أي حاجة !" وذلك دون أن يرى العجب العجاب الذي تبع ذلك إلى يوم الناس هذا. كتبتُ مرارا أن الخطة السرية لهذا النظام هو أن يجعلنا جميعا نفقد عقولنا، "نُبرطع" في الشوارع ونحصب الناس والحيوانات الأليفة بالحجارة، وأن يجعل موازيننا تختل: موازين الإدارك السليم، والفطرة السليمة، والمنطق السليم، والتدين السليم، والأخلاق السليمة. يُريدنا أن نرى الأبيض أسودا، والباطل حقا، والظلم عدلا، والسرقة شطارة ؛ ويُريدنا أن ندعو المجاعة التي تفتك بالناس فجوة غذائية، والكوليرا التي تحصد الأرواح مجرد اسهالات مائية في طريقها للزوال، والإنهيار الاقتصادي تنمية "مستدامة"، والفقر بحبوحة، والمذلة عزاً، واليد السُفلى تعاوناً، والإنبطاح مناطحة… و"الهوت دوق" وجبة فاخرة ! ولعلّ السلاح السري في هذه الخطة هو الحرص على استمرار "زهللة" المواطن بالتصريحات المتضاربة، والقرارات التي تُجافي المنطق والحقائق والمصلحة العامة، والسياسات الخرقاء المتناقضة قصيرة النظر، والمواقف التي تتقلب كل عشية وضحاها: من النقيض للنقيض؛ من الخصومة الفاجرة إلى المودة اللزجة، ومن الشتائم الجارحة إلى المداهنة والملق الرخيص، وارتكاب نفس الخطأ القاتل مثنى وثلاث ورباع، وإطلاق التصريحات الخرقاء كل صباح والاضطرار إلى لحسها صباح اليوم التالي. هل تذكرون تصريحاتهم أثناء الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية في عام 2008 ؟ أخبرونا بأن تلك الأزمة لا ولن تؤثر على الاقتصاد السوداني "الإسلامي" الذي يقف كالسيف وحده ولا يحتاج لاقتصاديات دول الاستكبار؟ وهل تذكرون قولهم أن المقاطعة الاقتصادية الأمريكية لا تؤثر على اقتصاد السودان المستقل الذي لا صلة له بالولايات المتحدة؟ وانظروا الآن إلى المأتم الذي أقاموه لتأجيل القرار الأمريكي حول مقاطعة السودان بعد أن أقاموا السرادق للإحتفال بالعفو الأمريكي الذي سيطلق الاقتصاد السوداني من عقاله ، وكأن مشاكل السودان الاقتصادية بدأت، وتواصلت نتيجة للعقوبات الأمريكية، وليس نتيجة السياسات الخرقاء، والفساد المريع، وإهدار موارد البلاد فيما لا ينفع البلاد والعباد. ويبدو أن النظام، رغم أزماته الداخلية والخارجية المتلاحقة (أو ربما بسببها)، قرر في السنوات القليلة الماضية تصعيد خطته السرية لجعل الشعب السوداني يفقد ما تبقى له من عقل عن طريق تسديد ضربة (أو قل ضربات) قاضية تُفكك ما تبقى من "صواميل" عقولنا. والحق يُقال أن المتتبع لتصريحات أهل النظام، وقرارتهم، وأفعالهم، وبرامجهم، واستراتيجياتهم الخمسية والربع قرنية، فيما يخص الشأن الداخلي أو الخارجي، لا يجد تفسيرا مبلوعا أو هدفا واضحا سوى أنهم يدفعوننا دفعا نحو الجنون المطبق. تباينت أساليبهم بين الكوميدي المضحك مثل قرار نائب والي الخرطوم بطلاء واجهات جميع المتاجر والمحال التجارية باللون الأخضر دون سبب في بدايات العهد ، وتصريحات أحد الوزراء عن استراتيجية "الدفاع بالنظر" لحماية حدود البلاد الشرقية من غارات الطائرات التي تطير بأضعاف سرعة الصوت ؛ والسياسات التراجيكوميدية، المُضحكة-المبكية، التي هلل لها "البرلمان" برفع الدعم الذي شمل المحروقات في وقت تدنت فيه أسعار النفط إلى الثلث، والزيادات المتتالية في أسعار السكر والأسمنت، والبلاد تفخر بمصانع السكر والأسمنت المتعددة؛ والقرارات القاتلة مثل خنق مشروع الجزيرة، وبيع قضبان سككه الحديدية التي هي وسيلة النقل الوحيدة للمدخلات والانتاج، بغض النظر عن مالك المشروع، سواء صار مستثمرا محليا، أم عربيا أم أعجميا؛ والاستراتيجيات المخيفة مثل تفريغ السودان من كافة كوادره المؤهلة عن طريق سياسة "التمكين" العمياء، (ثم البكاء على تدهور الخدمة المدنية والقطاعات الانتاجية والتعليم والصحة وكافة الخدمات!) بيد أن الأسافين تكاثرت في نوافيخنا مؤخرا، لتزيد من "زهللتنا". منها قميص ميسي (وهو لاعب عبقري عقله في قدمه اليسرى ولم يسمع بالسودان قط، وقد يخلط بينه وبين الواو الضكر)، و"بردلوبة" أديس التي فرحنا واغتبطنا بها حتى خنقتنا الغبطة (أو لعلها العبرة)، وصاحب ذلك التصريحات عن بناء المفاعل الذري لحل مشكلة الكهرباء (بعد أن أصبح سد القرن مجرد "حيطة مايلة")، والقمر الصناعي الذي سيُعين السودان على تحقيق الاكتفاء الذاتي من برامج التلفزيون القاتلة للشهوة ، إلى جانب القناطير المقنطرة من ذهب "سايبيرين" ماركة "عيش يا حمار !" غير أن الضربة القاصمة جاءت من قصة طه، وهي قصة يجب أن تُكتب بالإبر على آماق البصر. لا يبعث على الجنون أن الرجل، لا يشغل أكثر المناصب حساسية وتأثيرا فحسب، ولا أنه يحمل على كتفيه كمية تجارية من الدبابير والصقور والمقصات، ولا أنه انتقل بين عشية وضحاها من مواطن سوداني يُكلف بأدق المهام وأخطرها، إلى مواطن لدولة أخرى يشغل فيها منصب مستشار الشؤون الأفريقية! متى أصبح هذا الرجل الخارق مُلما بأحوال أفريقيا وقياداتها وسياستها وهو قد أفنى زهرة شبابه مديرا لمكاتب قادة النظام؟ وكيف تسنى له بناء هذه العلاقات رفيعة المستوى مع قادة أفريقيا وهو لا يُحسن، فيما علمنا، من لغات أفريقيا إلا العربية (على أحسن الفروض)؟ وكيف يصمت النظام (وهو لا يكف عن الكلام) إزاء ما حدث ولا يخرج علينا حتى بمثل التفسيرات العبقرية المعتادة التي تخاطب "قنابيرنا"؟ شعار النظام، فيما يبدو، هو: "رزق الهُبل على المجانين". افقدونا عقولنا واسترزقوا رزقا وفيرا، ما كان غالبهم يحلم به قبل ثلاثين عاما. مرة أخرى، لا بأس من التكرار. عاد المريض من مصحة الأمراض النفسية، بعد إقامة طويلة وطرق باب منزلهم ذات صباح باكر. وحين فتح أهله الباب، وجدوه عاريا كما ولدته أمه، وحين سألوه عن حاله، أجابهم في براءة: "أنا طِبتَ وخرّجوني!" "نادي الحكيم يا تمرجي!"