يسألونك عن المراحيض والأندية عوض محمد الحسن حين قرأت ما أحاط بالدورة المدرسية الأخيرة التي أقيمت في الأبيض من كرم كردفاني تمثل في إيواء وإطعام الآلاف من الطلاب المشاركين في الدورة، وبعد أن سمعت أن مدينة بارا تبرعت بمائة خروف مُحمّر، كل خروف محشو بالدجاج، وكل دجاجة محشوة بالحمام، وكل حمامة محشوة بالبيض، هاتفت أحد معارفي في بارا لتهنئته، وتهنئة مدينته، على هذا الكرم الحاتمي الذي يعكس حرص المدينة على التعليم ودعمها له ولطلابه. حقيقة فوجئتُ حين لم ألمس حماسا في من هاتفتُ، وصعقتُ حين قال لي: "بلا خرفان بلا بطيخ! طالبات مدرسة البنات التي بجوار منزلنا يقضين حاجتهن في مرحاض دارنا لعدم وجود مراحيض في المدرسة تصلح للاستخدام الآدمي!" قلت في نفسي: لا بد أن صديقي من "المرجفين" الذين لا يعملون ويُؤذيهم أن يعمل الناس، ولا بد أن له "أجندة" خاصة تُشوش حكمه على الأشياء. وحين تواترت الأنباء عن سقوط معلمة في مرحاض مدرستها، وعن اهتراء المراحيض المدرسية حتى في مدارس العاصمة، إن وُجدت، وعن البيئة المدرسية المتردية في معظم هذه المدارس في السودان، ساورني الشك في حُكمي القاسي على من هاتفت في بارا، وعاد إلى قنوطي ويأسي من إصلاح الحال. غير أن أئمة مساجد هذا الزمن، والعلماء "الميري"، ووعاظ التلفزيون والإذاعة والإنترنت، جزاهم الله عنا خير الجزاء، والمسؤولين وولاة الأمور، على تفاوت عدد "شناكلهم" ودبابيرهم، نصحونا جميعهم بألّا نقنط من رحمة المولى، وأن نُكثر من الدعوات، وأن نصبر على الإبتلاءات، والفقر،والعنت، ونقص الثمرات (والأنفس أحيانا)، وقلّة المراحيض ورداءتها، وأن نُكثر من الدعاء والتضرع عسى أن يلطف بنا الله ويجعل لنا مخرجا، أو يأخذنا إلى جواره في دار أفضل من دارنا. وقد صدق وعدُهم. لطف الله بنا وأبدلنا المراحيض المهترئة التي تبتلع المعلمات والتلميذات، والمدارس الآيلة للسقوط العاطلة عن المقاعد والنوافد والوسائل التعليمية، آيات من المعمار الحديث، تُزين جنبات العاصمة و""سنترها"، وشواطئ نيلها، سعيا نحو جعل الخرطوم "دُبي أفريقيا" كما وعدونا: الأبراج الشامخة، والصروح الممردة من قوارير، والأندية ذات النجوم السبع، والقصور والسرايات، وصالات الأفراح الفاخرة، والمزارع و"العِزَب" التي تمرح فيها الظباء والخيول والطواويس و"جداد الوادي"، التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. والحمد والشكر لله أولا وأخيرا، والشكر من بعده لمؤسساتنا ووزاراتنا وأجهزتنا الرسمية وشبه الرسمية، وللخيرين الذين أفاء عليهم هذا العهد خيرات لا تُحصى، على هذ النهضة العمرانية التي تضع الخرطوم في مصاف عواصم الجمال، خاصة بعد استقدام الشركات المغربية لتنظيف ما تبقى فيها من نفايات قليلة هنا وهناك، استعدادا لتدفق الآلاف المؤلفة من السياح الأجانب التي بشرتنا بها وزارة السياحة. ولكي يطمئن قلبي، استفتيتُ أحد أصدقائي من المشهود لهم بالحكمة في أمر هذه النهضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: – "ما فائدة المراحيض إن كان المرء لا يجد ما يُقيم الأود؟"