عالم فلك يفجّر مفاجأة عن الكائنات الفضائية    فيتش تعدل نظرتها المستقبلية لمصر    السيد القائد العام … أبا محمد    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    قطر.. تنظيم دخول وخروج الوافدين وإقامتهم الصادرة    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    والى الخرطوم ينعى نجل رئيس مجلس السيادة    قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة محمد عبدالفتاح البرهان نجل القائد العام للجيش السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بِغِم.. سودانيو امريكا .. بين التلاحم والتفاصم
نشر في حريات يوم 21 - 05 - 2011

حليمة عبد الرحمن……في يناير الماضي حملتني الاقدار الى بلاد العم سام لحضور اجتماعات أعضاء مجلس إدارة مؤسسة ورلد بلس الإعلامية (World Pulse Media). وبعد ستة أيام حسوما من الاجتماعات المطولة والزيارات الميدانية في مدينة نيويورك، برمجت الأيام المتبقية لي قبل مغادرة أمريكا، لجولات من استكشاف التفاحة الكبرى ( نيويورك ) وزيارة المعالم السياحية في العاصمة واشنطن. ولكن كتل الجليد المتساقطة علي ولايات الشرق الأمريكي لأيام متتالية شلت حركة المواصلات وأحالت الشوارع إلى زمهرير . والحال كذلك كان لابد تحت ذلك الحصار ان أكون بين الجدران الدافئة وتجمدت بذلك معظم أجندة برنامجي الترفيهي الى حين وفي النفس شئ من حتى، خاصة وان اقامتي لم تتجاوز الاسبوعين.
ومن محاسن الصدف الغريبة أنه قبيل مغادرتي العاصمة السعودية الرياض إلى نيويورك ، تلقيت رسالة بريد الكتروني من أحد أقاربي المقيمين في ولاية نيوجيرزي المجاورة لنيويورك. انه الأخ صديق ساجوري الذي انقطع التواصل بيني وبينه منذ سنة 1982 عندما غادر السودان للعمل مترجما في دولة قطر. وفي نص رسالته كتب لي صديق رقم تلفونه للتواصل معه. وكانت المفاجأة الكبرى انني بعد يومين من رسالته كنت اكلمه من نيويورك.
من خلال صديق تعرفت علي الأخ زاهر محمد أحمد (أبو أيوب) المقيم في ولاية نيوجيرزي. زاهر شيخ عرب أمريكاني – سوداني (ود بلد)، من وجهاء قبيلة المعاليا في دارفور بغرب السودان. و من خلال دعوته الكريمة لي للنزول ضيفة علي أسرته الفاضلة كانت فرصة ثمينة ان صحبت هذا الماجد المدعو زاهراً وتعرفت عن كثب علي طريقته الراقية في تعامله مع السيدة حرمه أميمة واطفاله الظرفاء، وحادثت عبر التلفون كثيرا والدته الظريفة الحاجة مريم حامد والتي كانت متواجدة مع ابنها الاخر المحامي وليد ببروكلن. اسرة زاهر كانت اول عائلة (بصَمَّتها ) في الشتات اقف على اثرها.
في منزله العامر بالحب والكرم الحاتمي، لم أشعر بأنني ضيفة بل شعرت بأنني فرد من أفراد الأسرة، وربما أكون كثيرا ما أزعجتهم بعدم انتظام ساعتي البيولوجية. فكنت أنام وهم إيقاظ وأصحو وهم نيام لأنير معظم المنزل وافتح التلفزيون والكومبيوتر والفطور وشاي الصباح. وكم مرة أيقظتهم (شلاقتي مع المطبخ وكركبة انصاص الليالي) وتلك قصة أخرى يبدو لي انه لولا ان للرجل من كنيته ((ابو ايوب)) الكثير، لكان مصيري الطرد في نفس اليوم.
لعل زاهرا واسرته ورثوا حب المغامرة والترحال عن أجدادهم. فبعد مرحلة الشهادة الثانوية السودانية تعلم (ابو ايوب) اللغة الألمانية وسافر إلي تركيا وألمانيا ودول أخري طلبا للعلم والعمل إلي أن استقر به المقام في بلاد العم سام قبل عقدين من الزمان.
قصة (ابو ايوب) قصة كفاح كبير حري بها ان تسلط عليها الاضواء.. فحينما جاء الى الولايات المتحدة عام 1989، لم يكن يملك ثمن تذكرة الطائرة التي حملته الى هناك.. فبدأ من الصفر، حيث عمل بائعا متجولا (vendor). لكن كان في ذهنه هدف واحد فقط هو اصراره على ان يكون له عمله الخاص.
ظل زاهر يقيس مدى تحقق حلمه بمدى إقترابه منه ، وكم انجز منه وكم تبقى له، وحسب قوله فقد كان المشوار طويلا ووعرا ولكنه يحمد الله الذي مهد له السير على الطريق الصحيح .
لم تكن رحلة الرجل نجاحا دائما، او اخفاقا متعاقباً، فلم يقعده الفشل ولم يسكره زهو النجاح.. ظل كما هو (يقالد والدو يستحمل نهرتو ويخالط جارو بشايو وكسرتو).
لن أصرح أو أقول ما هو عمل زاهر، (كيتن) في الحاسدين.!
ذلك مشهد اناس توفرت بعض الظروف المساعدة على النجاح، فاحسنوا استغلالها. من اراد بناء مستقبله وعمل لذلك كان له ما أراد، ومن لم يسعَ لذلك كان له أيضا ما أراد. تكون او لا تكون كله بيدك بعد توفيق الله. لكن لا يجب اغفال البيئة واثرها في ذلك. البيئة التي جعلت اوباما ابن المهاجر الكيني حسين يتسنم الحكم في اكبر قوى ضاربة في الوجود.
ولعل الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة ، شكلت علامة فارقة في حياة كثير من المهاجرين، خاصة من اصول افريقية. ولا شك ان غالبية الأمريكان السود صوتوا لصالح المرشح الرئاسي اوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة بصفته أول أسود يفوز بثقة الحزب الديمقراطي للمنافسة علي هذا المنصب .
تذكرت كيف عبر استأذنا الكاتب الصحفي الكبير فتحي الضو عن فرحته بالمشاركة لأول مرة في حياته في عملية اقتراع تجري بطريقة ديمقراطية ، ولعل زاهرا يشاطره هذا الاحساس وان كان قد سبقه الى ذلك بفترة طويلة.. فالرجل امضى في امريكا اكثر من اثنين وعشرين عاما، وصلها ذات يوم غريب اليد واللسان، ليصبح مواطن امريكي كامل الدسم.
علمت من بعض الرواة الثقات من الجالية السودانية في ولاية نيوجيرزي أن اجتماع صفات الفلاح والتدين والبساطة وانعكاسهم في سلوك الرجل تركت بصماتها الواضحة على كل من تعامل معهم بمختلف جذورهم. بهذا المنحى اثر(ابو ايوب) على الكثيرين.
وحسب افادة محدثي، فقد ساهم في جعل الكثيرين يعتنقون الإسلام من خلال التعامل الإنساني الراقي والسلوك النموذجي والقدوة الحسنة و”الملح والملاح.
شتان بين نموذج زاهر وبين مرشد الثورة والمنافقين من حوله ، الذين طالما تحدثوا عن كرامات الجهاد في جنوب السودان ونظموا حفلات الزفاف الجماعي (المُمَوْسَقة) لبنات الحور العين ، وبعد سحبهم من كراسي السلطة، سحبوا صكوك الاستشهاد من ضحايا الحرب البغيضة اعترفوا ب”سَمْبَلة” الموت هناك، فانكشف الزيف والنفاق. كم من أرباب أسر وطلبة جامعات انخدعوا بالشعارات الجوفاء ودفعوا حياتهم ثمنا لذلك، ليكابد من بعدهم أيتامهم وأراملهم وأمهاتهم وآبائهم مشقة الحياة ومسغبتها وذل السؤال ونقص الانفس والثمرات وزينة الحياة الدنيا، ولا عزاء للثكلى والأمهات المكلومات، بينما يسيل لعاب المنافقين لتقاسم الأرامل الجميلات مثني وثلاث ورباع وفك “التسجيلات” للبقاء في إطار الأربعة ولا عزاء لمتوسطات الجمال او القواعد منهن.
ولا مجال للمقارنة بينه وبين المنافقين الذين يرفعون الدين شعارا لتمكين أنفسهم ونهب مال الفقراء والمساكين في السودان، وقد دقوا طبول الحرب باسم الجهاد. ومع كل (طوف) من المدرعات يغادر للجنوب تندس شاحنات محملة بالتجارة الرابحة بالملايين لموظف حكومي فقير أطلق لحية وأدعي إنه من أمراء الجهاد، ليعود بالمال الوفير وتعود الشاحنات محملة بأخشاب التِك والمهوجني والأبنوس وغيرها من الثروة الغابية النادرة ، مكدسة وسط جثث الشباب من ضحايا الحرب وغسيل الأدمغة. فما أبأسها من تجارة سرقة الاحلام!
في الطريق من نيوجيرزي الى نيويورك، في بعض جولاتي المحدودة، جلت بناظري مرات عديدة في عربة مترو الانفاق التي كنت اجلس فيها. خريطة للعالم امتزجت فيها كل الجغرافيا البشرية.. سحنات والسنة وازياء و( مشطات شعر) وطرق تزين مختلفة.. كاملة دسم الاختلاف..!!
باختصار صورة تشعرك بالفوضى ولكنها فوضى “خلاقة” ، إن جاز التعبير ، منها تشكلت قوة امريكا الضاربة الجذور… مهاجرون من جميع اصقاع الدنيا يعيشون في انسجام وتناغم تام رغم تباينهم في كل شيء . كل يعرف أين تبدأ حقوق مواطنته وتنتهي حريته، تنافر متجاذب هناك.. وفي وطني العزيز نفس “خلطة” الجغرافيا البشرية لكنها مبشرة بالتشظي والتلظي. وتلك قصة اخرى.
اخبرتني مضيفتي اميمة انها حينما انتقلت واسرتها الى منزلهم الحالي، وحينما ذهبت احدى بناتها دون الثانية عشر الى المدرسة في التزام تام بالحجاب، سألتها احدى المعلمات ان كانت تغطى شعرها باسم الدين ام لا؟ فاجابت الابنة بالايجاب، فما كان من المعلمة الا ان طلبت منها الاحتفاظ بغطاء راسها في المدرسة وعدم نزعه اذا طلب منها احدهم ذلك..
منتهى الديمقراطية..!
طاف على خاطري طيف سيلفيا كاشف الجنوبية المسيحية القاصر، التي جُلِدت خسمين جلدة لانها كانت تلبس تنورة حكم عليها أحد الشُرَطيين بانها غير محتشمة. لعل سيلفيا كانت من اوائل المغادرين الى الجنوب وسيظل في نفسها شئ من حتى حتى تلاقي ربها. اذا غضضنا الطرف عن كيف تعامل الشريعة غير المسلمين، فيبدو ان مفاهيم حقوق الانسان ، قد قرر القائمون على الامر في بلاد السودان (سابقاَ)، حبسها خارج (زريبة) انسانيتهم.
رغم الشهادات العلمية من الجامعات المرموقة التي تزين جدران بعض زبانية الإنقاذ، والثقافات الاخرى التي احتكوا بها، بل وحمل بعضهم جوازها، إلا إنهم قوم فيهم جاهلية وقصر نظر ولا يفهمون قوانين الجاذبية- دينا وعلما- ولذلك أصبح الانفصال شديد الجاذبية وحدث التفاصم بدلا من التلاحم بين شمال وجنوب السودان، ولا نملك الا ان نقول.. الجَفَلَن خلُّوهن.. أقْرَعوا الواقفات. هذا ان استمعوا لنا.
لا شك ان الأنظمة الفاشلة التي حكمت السودان خلال الحقب الماضية هي التي اسست للوضع الراهن ودفعت آلاف بل ملايين السودانيين من ذوي المهارات والكفاءات واولو العزم أمثال زاهر للشتات والحياة في المنافي. وكانت المحصلة انهياراَ تاماَ في الخدمة العامة وتعطل كل مظاهر الانشطة الاقتصادية.
نموذج اخر لنجاح سوداني- امريكي.. أنه اخي الحبيب والصديق الصدوق داؤد محمد على آدم.. ابن منطقتي.. وصديق اخوتي ووالده المرحوم الباشمهندس محمد على كان “فردتي” في بص الموظفين لسنوات خلت.. كنت ارتاح كثيرا لحكاياته عن جبهة تحرير ارتريا ونضاله هناك قبل حضوره الى السودان في رحلة مسح جيوليوجي حيث تزوج وانجب ابنائه استقر به المقام في الجبل الى أن لقى ربه راضيا مرضيا..
هاجر داؤد الى امريكا في فترة مقاربة لفترة زاهر، واستقر به المقام في مدينة فيلادلفيا حيث بدا هو الاخر من الصفر.. وبفضل جهده الدؤوب نجح في اقامة عمله الخاص، فوقفت شركته (Global Equipments Supply) شامخة عملاقة، تسر الناظرين.
حينما علم بوجودي، حضر الى هو زوجته العزيزة امل بت الموردة، ليأخذاني للتعرف على اطفالهما وقضاء بعض الايام معهما. لكن ظروف سفري حالت دون ذلك.
جلست مع داؤد في منزل زاهر نتجاذب أطراف الحديث الشيق ونسترجع ذكريات الايام الخوالي، لأكثر من ساعتين.. بدءا بجبل اولياء ، وأهل الجبل الأحياء منهم والاموات والدياسبورا وما بدلوا تبديلا. لم نترك شاردة او واردة (جبلاوية) الا تطرقنا لها.. ضحكنا معا وحزنا، فقد غمرنا سيل الذكريات وآلام الفراق والشتات، على حين غرة.
اسرة داؤود نفسه، تفرقت، بعد وفاة الوالدين في جميع انحاء المعمورة.. أخ له صارا مواطناً بريطانيا، وكانت قد سبقته إلى المواطنة الانجليزية أخت صارت حبوبة (خواجية) ترتدي الثوب صيفا وتتكلم العربية بتلعثم متزايد، بينما لا يتجاوز عدد الكلمات التي يرددها أحفادها أصابع اليدين الاثنين على أحسن تقدير. اخت أخرى اجتذبها (رخص) المعيشة في مصر، فقررت الإقامة بأسرتها هناك.
والاخت الوحيدة التي اصرت على البقاء في المنزل الذي يحمل ريحة الام والأب والأخوة الذين تفرقوا، علهم يعودون يوما إلى الديار، مرشحة للحاق باخوتها هي الاخرى. اسرة كاملة في طريقها هي الاخرى الى ان تكون ب(ربطتها) في المنافي.
ودعنا بعضنا بحنين أكثر مما استقبلنا.. ولم أنافقه وأتمنى له العودة إلى الوطن سالما غانما، فذلك كذب وتدليس لن افعله .. فواقع الحال يقول انني الاخرى ابحث عن سبيل إلى المخارجة، ما وجدت الى ذلك سبيلا.
تظل قناعتي الراسخة بأن السوداني- على الأقل من جيلي أنا ومن بقى مما سبقته من باقي الأجيال- يظل هو السوداني السَوِى الهوى والهوية وان تدثر شرعا بثوب اخر ومسمى اخر. شئ ما يشدنا إلى بعضنا البعض..ربما النوستالجيا.. وربما شئ آخر لا ندري كنهه..لكنها مشاعر شتى، تتداخل وتتمايز ما بين خارج مولود و داخل مفقود. مشاعر ملونة بأطياف قوس قزح (صابِنُ) في قوته وضعفه.. سمته وصمته، إرعاده وسكونه، إخفاقه ونجاحه..خمسة مليون ناجعون، نازحون سائحون في بلاد الله.
يلهجون بذكر السودان آناء الليل وأطراف النهار. يحملون في حقائب سفرهم إلى جانب الجواز الاخضر والجلابية والعراقي والمركوب، الويكة و(الشرموط) وربما (ام تكَشو) واللوبيا والويكاب و(الكَوَل) و(المِرِسْ) والسَبَروق والحناء والطلح والكركار والخُمْرة، واشرطة أغاني الكاشف وعثمان حسين وود اللمين ووردي ومصطفي سيد احمد وغيرهم، ويحلمون ببعض العشق والهيام لسودانية تهوى عاشق ود بلد وفي عيونها المفاتن شئ ماليهو حد، بينما أطراف منهم تنزلق، غصبا عنهم، في غيابت المجتمعات الجديدة ، ليردد لسان حالهم مرة اخري بنبرة يأس:
محب صوفي وحديثه كُتُر
وما في مثيله أي والله..
مارق للوجع والريد.. وواهب روحي لي الله..
للحلوة البراها الدنيا ما بتسوَى التراب والله.
وان كان بين الريلة أوجِدَي الريل أبو جديمة” التي يحملونها شوقا في الحنايا ويهفون اليها ويحلمون بالأوبة إليها ذات يوم، سراب بقيعان رداء المشروع الحضاري، و(مَيَعَه)، فاستطالت بذلك بينهم وبينها حوائط ليل ونهض ألف باب..
هذا غير ثمانية ملايين الجنوب وقد هوت أفئدتها اليه، ما زال اهل دارفور ناجعون يتقاذفهم ذل المعسكرات ونقص الانفس والامن والعيش الضنك.. كم فصلا من فصول الخريف او الشتاء شهدوا؟ صَبَنَت حَرَّقَت وارعدت وزمجرت غَرَّقَت سماء البؤس واليباب؟ مآسي تتشكل وتترابط وتتكاثف وتلتف بجدول حياتهم اليومي، التفاف خيط عنكبوتي باصبع ندي.
الرائع صبري الشريف الذي جمعني به منبر سودانيز اونلاين.. كان اول من اتصل بي وحضر لتحيتي وزيارتي أكثر من مرة في منزل (ابو ايوب)، وعزمني “عشوة كاربة” في احد المطاعم التركية بنيوجيرزي.. فقضينا امسية جميلة. دفء مشاعره الفياضة دفأ دواخلي كثيرا، وانساني كتل الصقيع البيضاء في الخارج حتى كدت أن اخرج من المطعم دون معطفي..لأول مرة اعرف صبري المناكف الاسفيري عن كثب، فوجدته سودانيا (ود بلد) آخر، كأنه لم يغادر مدينة رفاعة قط.
من اريزونا كان يأتيني دائما صوت الراقية الرائعة بروفيسور سعاد تاج السر على الشيخ، تسأل عن حالي واحوالي. سعاد (الحِنَينَة) قصة نجاح سوداني اخر، وقصة شباب هاجر فتحت عيون ابنائه هناك وربما دفن (سُرَّة) بعضهم في المنافي.
انا وسعاد كانت لنا ايام في القلب ذكراها في رحاب ام نخيل.. ابتدأ المشوار بكلية الاداب جامعة الخرطوم..تزاملنا حتى السنة الثالثة في شعبة اللغة الانجليزية، ثم واصلت صعودها إلى اعلى لدى شين عبد النور ومروان حامد ومحمد احمد محمود وغيرهم، ووقفت انا عند سيدة جون ملتون الجميلة التي لا تعرف الرحمة. على ابواب شعبة اللغة الفرنسية، لدى بروفيسور يونس الامين، وعبد الرحمن مصطفى وبابكر ديومة وبيريرا وجان كلود وغيرهم، ختمت مشواري الجامعي، وهاجرت سعاد في نفس العام الى امريكا، حيث كان لها شأن اخر وانقطعت سبل الاتصال بيينا.
واصلت سعاد رحلة النجاح، فاصبحت رئيس قسم الدراسات الشرق اوسطية بجامعة اريزونا.. وحينما انتدبها معهد فولبرايت قبل عامين للعمل بالجامعة الامريكية بالكويت.. بحثت عن رقم تلفوني ثم اتاني صوتها ذات صباح بعد عشرين عاما حسوما. فطفقنا نتحدث دون كلل او ملل..وتعدد تواصلنا عبر وسائط الشبكة العنكبوتية..كانت عونا كبيرا لي بالارشاد والمتابعة في رحلة هذه حتى وانا في طريقي الى المطار.
لا يذكر اسم سعاد ونضالها، الا وجاء مقرونا بوقوف زوجها وشريك سرائها وضرائها الرجل الخلوق البروفيسور عبد الله جلاب.. لهما التحية، فقد نضرا حياتنا فكرا كما توجا رحلة كفاحهما الطويل نجاحا باهرا هناك في بلاد العام سام حيث يصبح المستحيل واقعا، لمن اراد ذلك وعمل له.
هويدا قرشي محمد احمد.. صديقة العمر وزميلة ايام بحر العرب بالجامعة..لم تنقطع تلفوناتها عني يوما، طيلة وجودي في نيوجيرزي.
هويدا هي الاخرى تعددت محطاتها، فيما بين شعبة اللغة الانجليزية بكلية الاداب، حيث كانت تعمل الى المملكة هنا حيث قضت بعض من سنواتها ما بين “ربوبية” المنزل و معهد “جيشا” بجدة، لتغادر الى كندا حيث استقرت في مدينة هالفاكس.
بحوث هويدا في الماجستير نالت اعلى التقديرات في تاريخ الكلية بهاليفاكس. رغم ذلك تفكر هويدا جديا بالعودة الى مسقط رأسها ، قرية كنور بعطبرة، لتؤسس مدرسة ترفع بها مستوى التعليم في منطقتها.. مشروع كنت وما زلت انظر اليه بعين الشك..
اتمنى ان تجد هويدا الفرصة لتحقيق مشروعها الكبير. واتمنى ان تجد حينذاك بعض الاسر الراغبة في تعليم ابنائها تعليما عاليا والقادرة على الاستمرار فيه.
د. احمد طراوة، الصاوي حامد ووليد محمد احمد وزوجته ، الصديق العزيز صديق عبد الهادي، والاخ العزيز زهير بدر التمام الحاج سعد، وهنادي جارة اميمة وآخرون خذلتني ذاكرتي في تذكر اسمائهم وان كان لساني سيظل رطبا بذكرهم وذكراهم.
إن أنسى لا أنسى دكتورة منى.. تشاجرنا بعد نصف ساعة من تعارفنا والسبب لا يحتاج الى شرح.. وظللنا نتشاجر في كل مرة نلتقي ونعرج على السياسة. ننتهى من السلام بالأحضان، لنفتح صفحة “السلام الخشن” ونرفع بعده الراية البيضاء وهكذا دواليك.. رغم ذلك أصرت حينما علمت إنني ساترك البالطو خاصتي في منزل أبي أيوب، لاتخفف من حملي الثقيل و لانني لا احتاجه في المطارات الدافئة التي سأمر بها، على احضار بالطو خفيف لي، فذهبت إلى منزلها وجلبت البالطو واصرت على ان البسه حتى لا اصاب بنزلة برد (على وليداتي وأبوهم). وما ببين (ملاواتها) وإصرارها على أن ألبسه و(مكاجرتي)، كان لها ما أرادت. وفي مطار هيثرو حينما نزعته للبس العباءة السوداء استعداد للعودة الى “ديرتنا” اكتشفت أنني كنت البسه طيلة ذلك الوقت ب”القلبة”.
قلة السودانيات المهاجرات مقارنة مع السودانيين جعل النساء في امريكا ينمن ملء شواردهن ويختصم الرجال ويزدحمون عند ابوابهن، كما اخبرتني احداهن في مناسبة زواج سوداني تسنى لي حضوره. والسبب وجود وضع لا يسمح بالتعدد أو(الواحدة في تولا)، كما يقولون، وتدني نسبة المهاجرات الاناث قياسا بالذكور.
“الحمد لله الورانا كبكبة الرجال فوقنا.. تاني مافي راجل بقل ادبه فوق مرة.. اول كركبة او عنكبة، طوالي تشوتو بره الباب، وتاني يوم يكون اخوه قاعد جوه) علقت إحداهن ساخرة على سؤالي عن وضع النساء هناك. فحسدتهن..!
تلك هي نماذج مصغرة لسودان عائم في كثير من أصقاع الدنيا..أؤلئك قوم نضجتهم نار الغربة والبعد عن الوطن وأبقتهم أكثر تمسكا بالقيم الأصيلة لإنسان السودان الحقيقي. فهي التي تبقت لهم بعد أن فارقوا أرض السودان جسدا، ولذلك تجدهم أحرص ما يكونون عليها روحا.
ذلك مجتمع أمريكا.. مُشْرَع على جميع الاتجاهات ومفتوح كالبراشوت على أقصى سعته ، لذا تهوي إليه الأفئدة، الا من رحم ربي.
أمريكا أصبحت دولة عظمي بجهود المهاجرين المكافحين أمثال الأخ زاهر و المهاجرين من شتى بقاع الدنيا، منهم من حظي بالتوفيق في المجال المهني ومنهم من (تلطش) وضربت عليهم الذلة والمسكنة. مشهد يماثله مشهد السودانيون بالداخل المصابون باليأس والإحباط من قيادات الأحزاب السودانية التقليدية الذين اما يفصلون في نظريات التغيير او مصطلحاته و ينتظرون من يسلمهم مفاتيح القصر الجمهوري “تمرات فوق فكي” .
من القصور الى القبور يا ابو السُرَّة..!
وما بين الاثنين ندور “إحنا بتوع التاكسي” في حلقات الحكم العسكري المفرغة ودواماته، واستكراته لنا وجدبه وكذبه.. وما بين قاشه و”قاشاته” تضيع الحواشات ولا عزاء للمزارعين والكادحين، الذين ليس لهم سوى التعلق باستار الماضي ولسان حالهم يقول:
يا ريت لو التمر يشيل كل تلاتة اشهر
ولا ايام زمان كانت ما تمر
كان ما كان وكان
كنت اكسيك دُر..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.