بعد أن تلفّت يمنة ويسرة، و”صنقع ودنقر” وهرش رأسه كذا مرة وخلع النظارة ولبسها عددا من المرات، ومثل ذلك فعل مع الحذاء وقام نصف قومة من مقعده ثم جلس ليتناول أخيراً القلم ويوقع على قرار بيع جزء من مساحة المدارس لتوفير المال لصيانة وحل مشاكل الجزء غير المباع، هكذا تصورت حال وزير التعليم بولاية الخرطوم وهو يقدم على هذه الخطوة الخطيرة، والتي إذا ما بدأ تنفيذها فلن يضمن أحد ألا تنتهي وتتلاشى المدرسة نفسها على طريقة البيع بالتقسيط كلما واجهتهم مشكلة باعوا بضعة أمتار وهكذا حتى يأتوا على المدرسة بكاملها، مثل ما فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام الجاهلية مع صنمه المصنوع من العجوة حيث كان كلما جاع أكل عضواً منه، وظل هكذا مع كل جوعة قضمة إلى أن انتبه أخيراً انه قد التهم الصنم كاملاً ولم يبق منه ولا فتفوتة صغيرة، وهذا ربما كان هو نفس المصير الذي قد تواجهه بعض المدارس ان لم نقل كلها اذا ما تم انتهاج مثل هذه السياسة التي تجعل من وزارة التعليم وزارة للبيع بالتقسيط. لم أكن أتصور أبداً أن يكون السيد وزير التعليم بولاية الخرطوم قد أمضى قرار بيع جزء من مساحة المدارس بدم بارد وهو يبتسم ولهذا تخيلته على الهيئة التي وصفتها لكم في البداية، فقد كان من العسير جداً عليَّ أن أصدق أن أي مسؤول عن التعليم يمكن أن يقدم على قرار كهذا بطيب خاطر، ولهذا كي أكون منصفاً قدرت أن هناك معضلة استعصت على كل حل هي ما اضطرتهم لركوب هذا المركب الصعب والخطير الذي لن يزيد الوضع التعليمي إلا تدهوراً وتعقيداً، ولكن السؤال هل بمثل هذا الاجراء يكون الحل لبعض مشاكل التعليم المزمنة والمستعصية؟. الواقع ان اجراء البيع لن يزيد طين التعليم إلا بلة، فمثلاً إذا ما تم بيع جزء من المدرسة الآن وساعد ذلك في حل كل مشاكلها الآنية، فماذا ستفعل في الغد وبعد الغد، هل ستستمر في البيع على النحو الذي أشرنا له الى أن يصحو الناس ذات يوم ولا يجدون المدرسة نفسها بل يجدون في مكانها مخازن وبوتيكات وبقالات وبنشرا وفكهانيا وجزارة مثلاً، أم ماذا، أفهم أن الوزارة قد واجهت وضعاً ضاغطاً بعد إعلانها الحاسم أن لا رسوم بتاتاً، ويعتبر مرتكب جريمة عقوبتها السجن من يتحصل أي مليم من أي تلميذ، هذا الوضع رغم أنه أثلج صدور الآباء وأولياء الأمور وخاصةً الفقراء منهم، إلا أنه كشف ظهر المدرسة وجعل ادارتها عارية بلا أي مال للخدمات والتسيير الذي كانت توفره الرسوم المفروضة قهراً منذ ان رفعت الحكومة يدها عن التعليم ووضعته في أدنى درجة على سلم أولوياتها التي تقف على رأسها بكل شمم وشموخ بنود الأمن والدفاع والسيادة والتمكين في الأرض، هذا هو فيل المشكلة الذي يجب طعنه مباشرة وليست تلك الظلال التي تهرّب اليها الوزارة، فما لم يتحسن وضع الانفاق على التعليم بما يوفر للمدارس احتياجاتها وميزانيات تسييرها لن ينصلح حال التعليم أبداً…