توالت فى الشهور الماضية الاعتداءات من الجيش الحكومى على الولايات التى تقطنها اثنيات غير عربية . كانت البداية بولاية جنوب كردفان ثم تلتها فى اقل من ثلاثة اشهر ولاية النييل الازرق . وهذه الاعتداءات اتسمت بقواسم مشتركة فى طريقة بدايتها , وفى درجة العنف فيها وايضا فى المبررات التى سيقت لها من قبل الحكومة . ففى كلا الاعتداءين كانت البداية غامضة حيث تبودلت الاتهامات بين الطرفين حول من بدا الهجوم , فالحركة الشعبية القت اللوم على مليشيات الحكومة والجيش السودانى ادان التخطيط المسبق للهجوم عليه . ولكن الغريب فى الامر هو حالة التجييش المسبقة للقوات الحكومية فى الولايتين قبل ايام من بداية الهجوم العسكرى , كما ان الاليات التى تم نقلها الى الولايتست بشهادة المواطنين كانت تثير خوفهم وتنبىء بالقادم . الحكومة السودانية التى تنفى تماما انها يدأت الهجوم تسارع الى اتخاذ الخطوات السياسية التى تثبت انها المستفيد الاول من الاعمال العسكرية وحالة الطوارىء التى تصبح قانونية فى حالة الفوضى الامنية التى بموجبها يتمكن الرئيس من اصدار ما يشاء من قوانين فى المكان المضطرب امنيا وبالتالى احكام السيطرة العسكرية عليه فى ما يشبه الاحتلال . وهذا السيناريو هو ما قامت به الحكومة فى النيل الازرق بسرعة مدهشة ففى اقل من 48 ساعة على بداية الاحداث وبدون اجراء اى تحقيق قام الرئيس بفرض حالة الطوارئ واعفاء الوالى واستبداله بحاكم عسكرى . فى جنوب كردفان كان الهدف اكثر تعقيدا فابعاد النوبة عن الساحة السياسية عبر تحويلهم الى متمردين وخارجين على القانون كان يحتاج الى مجهود اكبر رغم النجاح فى النهاية فى ازاحة النوبة و الاثنيات غير العربية الاخرى فى جنوب كردفان من المشاركة فى السلطة بحجة تمردهم وانتمائهم للحركة الشعبية . الحركة الشعبية العدو الشامل : محاولات الانقاذيين للانفراد بحكم البلاد باءت بهزيمة كبرى عند اضطرارهم على مضض للاتفاق مع الحركة الشعبية فى نيفاشا لانهاء الحرب التى اصبحت خاسرة فى كل الحسابات الاقتصادية والسياسية والدولية ايضا . هذا الوضع الجديد الذى فرضته الاتفاقية ادى الى مشاركة حكم البلاد مع الحركة الشعبية التى كانت بدورها تسعى الى تمثيل كافة المهمشين حسب ادبياتها , اى السودانيين الافارقة الاصل الذين ام يحظوا بفرصة المشاركة العادلة فى حكم السودان او فى التحكم فى ثرواته . ولان الهدف الاساس من الاتفاق مع الحركة الشعبية كان فقط وقف الحرب التى اصبحت غير قابلة للاستمرار وليس تحقيق المشاركة الحقيقية فى الحكم للحركة او من تمثلهم من المهمشين , فان شرط الاتفاقية فى تقرير الجنوبيين لمصيرهم باعتبارهم القوة المهمشة الاكثر تنظيما وعددا فقد ادى بهم الامر الى اختيار يناء دولة منفصلة يحكمونها بانفسهم دون مشاركة احد ولا حتى حلفائهم من المهمشين الاخرين . الواقع المعقد الشديد التشوه الذى نشأ عن هذا الوضع هو عملية بتر الجنوب باعتياره المهدد الاكثر خطرا على الانقاذ من اى معارضة او اى خطر خارجى اخر , والاستفراد بالسودانيين الافارقة الباقين داخل خريطة السودان المقسم الشديدى البعد جغرافيا عن بعضهم والاقل تنظيما سوى من وحدتهم داخل الحركة الشعبية باثتثناء حركات دارفور الجديدة نسبيا فى دخول الصراع المنظم ضد نظام الخرطوم . وهذه الوجود تحت مظلة الحركة الشعبية خاصة بما يعرف بالمنطقتين فى كل من النيل الازرق وجنوب كردفان كان الفرصة الذهبية للكيزان فى شن ما يعتقدون انه معركتهم الحاسمة والاخيرة ضد ما تبقى من الخطر الحقيقى على وجود الكيزان ومشروعهم العنصرى الاحادى التوجه , وهم السودانيين الافارقة والمتضررين الحقيقيين من هذا المشروع ليس فقط لانه يلغى وجودهم كمواطنين ذوى حقوق بل ايضا لانه يستهدفهم عرقيا باعتبار اختلافهم العرقى و الثقافى وبالتالى تهديد الوحدة الثقافية التى يريدها الكيزان لفرض سيطرة محكمة وسهلة على السودان . المعارضة الصديقة : حظى نظام الانقاذ بمعارضة صديقة وذات علاقات حميمة وقريبة مع الحكومة الحزب . حيث ان الاحزاب التقليدية الطائفية ذات التوجه الدين وجدت نفسها قادرة فى المرحلة الراهنة على التغاضى عن الصراع حول السلطة الذى ظلت تمارسه فى السنوات الماضية ما قبل نيفاشا تحت لافتات الديمقراطية والحرية , تغاضت عنه لصالح مصالحها الاستراتيجية فى البقاء من الاساس فى وجه الحراك السريع لقوى السودانيين الافارقة البعيدين عن هذه التنطيمات الدينية فى مصالحهم الحالية والمستقبلية مع التاريخ المؤسف لهذه القوى فى فترات سيطرتها على الحكم فى علاقتها معهم اضافة الى الازمة الحقيقية فى هذه العلاقة التى تفرض فى وجودها الانتماء المسبق الى الثقافة الاسلامية والعربية اضافة الى العنصرية والتمييز العرقى الممارس من قبل هذه القوى فى داخلها كتنظيمات دينية اجتماعية ومسيطرة اقتصاديا فى مرحلة ما قبل الكيزان , غير انها لازالت مكون اساسى فى توجيه المجتمع السودانى سياسيا ةثقافيا واجتماعيا الامر الذى يجعل وجودها مرتبطا تماما باستمرار تركيبة المجتمع السودانى فى شكلها الحالى وكذلك شكل الحكم وتوزيع الثروة والسلطة . وبالتالى فان عملية تحلل النظام الحاكم فى السودان تعنى نهايتها هى ايضاً رغم محاولاتها المستميتة لصناعة تحالفات مع القوى الافريقيى كما فعل حزب الامة منذ ايام بتوقيع اتفاق نع حكومة الجنوب فى محاولة منه لعقد حلف استراتيجى قد يؤجل عملية تحلله مع النظام القائم . الحرب النهائية ام نهاية الحرب : النظام الحاكم يقود حملته العسكرية الاخيرة ضد اعدائه الذين يراهم مفككين واكثر ضعفا ويحظون بدعم ضعيف داخليا وخارجيا , ولكن ما لا يعيه النظام ان اهمية هذه المعركة يكمن فى توقيتها ليس بالنسبة للحركة الشعبية ولكن بالنسبة له هو . فالنظام يخوض معركة الذى لا يستطيع خسارة شىء لا السلطة ولا المال والوقت ولكن فى المقابل الحركة والسودانيين الافارق الذين يحاربون الان ليس لديهم ما يخسرونه على الاطلاق وكل ما يستطيعون فعفله هو القتال دفاعا عن انفسهم واهلهم وارضهم , وهذه حرب يمكن ان تطول والوقت كما ذكرنا امر لا يستطيع الكيزان خسرانه فالازمات الاقتصادية والضغط الدولى يزداد مع الوقت . وفى المقابل فان المقاومة تزداد تنظيما وتكسب حلفاء جدد . غير ان النهاية لهذا النظام فى حالة استمرار المقاومة له عسكريا فقط سيطيل من عمره ويودى بحياة الالاف قبل تدميره او استسلامه والضحايا فى اغلبهم سيكونون من المدنيين كما يحدث الان فى الحروب اذ ان النظام يقصف المدنيين بلا هوادة , لذلك تبقى المقاومة المدنية من المركز وامتدادته عامل رئيسى فى التعجيل باسقاط النظام والاهم ان التحالفات التى ستنجم عن هكذا تنسيق بين القوى الاجتماعية قبل السياسية وهنا اخص التنظيمات الاهلية المناهضة للنظام بوضوح لاسباب متعلقة باضرار مباشرة تعرضوا لها من اشكال الظلم المختلفة من اعتداء على الاراضى وبطالة وافقار وكبت للحريات . وهذه التنظيمات هى مناطقية وقبلية احيانا كما ان بعضها مهنى او فئوى , كما ان الطبقات الاجتماعية ذات الدخل المرتفع ايضا تشكل جزءا من هذا الحراك حيث ان الحريات المكبوتة هى عدو رئيس للازدهار الاقتصادى فالموارد كلما ازدادت احتاجت لحرية اكبر للاستمتاع بها . اما الطبقات الاكثر فقرا فهي دائما المتضرر الاكبر والاكثر استعدادا وتأثيرا فى نجاح مقاومة النظام من الداخل واسقاطه . ان نهاية مأساة السودان فى الحكم الاحادى والعنصرية والحرب المستمرة تبدو قريبة جدا فى حال العمل المشترك الجاد لانهائها , وهذا العمل رغم ان الكثير منه يبدو انه عسكرى لكن الحكمة ترجح العمل المدنى المشترك ليس فقط لاسقاط النظام ولكن اولا لتحقيق وحدة حقيقية بين السودانيين حيث ان الدماء التى سيريقها النظام فى محاولاته الاخيرة للبقاء والتى لن تستثنى حينها احدا فسيتساوى السودانيين ( عبيد واولاد بلد ) امام فوهات بنادق مليشيات النظام عندما يخرجون رافضين لبقائه مطالبين برحيله . والا فان الحرب ان كانت وحدها هى وسيلةاسقاط النظام واستمر السودانيين الافارقة فى الموت وحدهم والتضحية وحدهم فان الحرب لن تنتهى الى اسقاط النظام فقط بل الى تدمير الفرصة الوحيدة لتحقيق وحدة حقيقة بين السودانيين حيث نضحى جميعا لاجل هذا الوطن فتتحد دمائنا وهى تسيل على ارض هذا الوطن من اجل مستقبل بلا حروب . اهل جبال النوبة ودارفور والان النيل الازرق تروى دمائهم هذه الارض على مدار الساعة فهل هذا الوطن لهم وحدهم ام لهم فيه شركاء ؟ هذه الفرصة الاخيرة ماثلة امام من لا زالو يتفرجون ويكتفون بالكلام لدفع اسهمهم كشركاء فى هذا الوطن !! [email protected]