كثرت في الآونة الأخيرة المرافعات والمراجعات الفكر/تنظيمية التي قدمها لفيفٌ من قيادات الصف الأول من الإسلاميين السودانيين(الشيخ الترابي) أو من القيادات الوسيطة (عبد الوهاب الأفندي والطيب زين العابدين) ورغم احترامنا لهذه المراجعات والتي تأخرت كثيرا خاصة وأن تجربة حكم التيار الإسلامي التي تطاولت قد أسفرت منذ مهد صباها عن ممارسات بشعة وسياسات رعناء ما كانت تحتاج لكل هذا الوقت لاكتشاف أخطائها ومن ثم نقدها والبعد عنها . فإذا قارنَّا موقف الإسلاميين هذا مع موقف تيار عقائدي آخر هو الحزب الشيوعي السوداني في تجربته مع النظام المايوي البائد نجد أن الشيوعيين سرعان ما حللوا وفهموا طبيعة نظام مايو الدكتاتوري وتراجعوا عن موقفهم المساند لسلطته الانقلابية بل وحاولوا جادين تصحيح خطأ دعمهم له بحركة تصحيحية عرفت بانقلاب هاشم العطا في 19 يوليو 1971م بعد أقل من عاميين من دعمهم للنظام المايوي وقد تم في تلك الأحداث الملحمية التي تحاكي أساطير الإغريق القديمة التضحية بالقيادة التاريخية للحزب الشيوعي (عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق) واعتلوا المشانق في ثبات دفعا عن المبدأ وإحقاق للحق مما يجعل الفرق شاسعا وكبيرا بين مبدئية وصدق تلكم النخبة النيرة من الأبطال وهذه الأصوات الخجولة التي انطلقت بعد (خراب سوبا) في صفوف التيار الإسلامي منتقدة لأخطاء نظام الإنقاذ التي تراكمت. والذي يقدح في صدق هذه الأصوات ويجعل من مراجعاتها ضربا من ضروب الكيد البيني للإخوة الأعداء في نظر كثير من المحللين تأخرها كل هذه السنوات وانطلاقها من عقالها بعد المفاصلة التاريخية للشيخ الترابي وحواريه المقربين أواخر عام 1999م بل وبعد أن تأكد القوم أن الطلاق بائن لا رجعة فيه وكان قد مضي عقد كامل من المشاركة الفعلية في كافة الجرائم والخطايا التي اقترفها النظام الحاكم والتأييد المطلق لكافة خطواته العرجاء التي أدت في نهايتها للواقع المحزن الذي نشهده اليوم. فلم نسمع في تلكم الأيام التعيسة والبائسة من زمان (التمكين) والصفا (الإخواني) صوتا يعلو بالنقد أو الرفض لسياسات الذل التي مارسها نظام الإنقاذ ضد شعبه بمثل ما فعل الحزب الشيوعي السوداني مع نظام مايو المقبور في بياناته الناقدة والشارحة لطبيعة الانقلاب العسكري المايوي منذ فجر اندلاعه ، فالجرائم والأخطاء الفادحة التي ارتكبها نظام الإنقاذ منذ اغتصابه للسلطة من قتل وتعذيب المعارضين في بيوت الأشباح وقطع الأرزاق وتشريد الكفاءات بقانون (الصالح العام) سيء الصيت وإعدام الأبرياء بفرية الاتجار في العملة وتحويل الحرب على أبناء الوطن في الجنوب إلى حرب جهادية دينية رغم وضوح المظالم الاجتماعية والاقتصادية الواقعة تاريخيا لا تحتاج بأي حال من الأحوال ومهما كانت المبررات لكل هذا الوقت لكي يفهم ويكتشف أصحاب المراجعات فداحتها ويتراجعون عنها ويقولون فيها قولة الحق الفصل. هذا الشيء يدفع بكل ذي بصيرة لان ينظر لأمر هذه المراجعات بعين الشك والرِّيبة حين يضعها في سياقها التاريخي والسياسي ، ويرتاب في كونها قد تبلورت نتيجة قناعات فكرية بقدر ما قد تكون مجرد تنفيس عن احتقان ومرارات المفاصلة الشهيرة التي حرمت طائفة من الإسلاميين السلطة وامتيازاتها ويسهل تفسيرها حينئذ في سياق الصراع الدائر بين الشيخ الترابي والعاقِّين من حواريه وتناطح الطموحات الشخصية لقيادات التيار الإسلامي الذي استطاع الشيخ باحترافيته التنظيمية توحيده وجمع شتاته في فترة من الفترات عندما انتقل بتجربته السياسية الزئبقية من مرحلة (الإخوان المسلمين) لإناء أكثر اتساعا هو (الجبهة القومية الإسلامية) التي مهدت الطريق للانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة ديمقراطيا ومن ثم ظهور حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي ضم بين ضلوعه وسط دهشة الساحة السياسية السودانية الكثير من الشخصيات المسيحية في شطحة من شطحات الشيخ الميكافيللية فتوحدت الجماعات الإسلامية تحت مظلة الشيخ المبدع ولكن ظل من تظلهم بظلها فرق وشيع لكل أحلامه ورؤيته. بيد أن الأمانة تقتضي أن نضع في الحسبان فداحة الخطب الذي أصاب طائفة من شباب التيار الإسلامي وكوادره الوسيطة التي لطمت بعنف في مشاعرها وحقيقة مشروعها الحضاري وزلزلة زلزالا عظيما وهي ترى شيوخها الورعين الأطهار يستغلونها أبشع استغلال لدرجة التضحية بجموعها في حرب الجنوب الخاسرة التي زيَّنها الشيوخ وأفتوا بأنها جهاد ثم ما لبثوا وتنكروا لدفع وتضحيات تلك الطائفة من الشباب وأنكروا استشهادها ولتفوا على سماحة الشعارات الإسلامية وتنصلوا من أبسط القيم الدينية الداعية للزهد والتواضع متهافتين على السلطة والثروة تهافت الذباب على قصعة العسل في مفارقة ميلودرامية زادت من حسرة تلك المجاميع المغرر بها وأوردتها موارد التيه والشك في نبل المقاصد وطرحت أسئلة صادمة وحائرة في العقول المؤمنة عن جوهر التناقض بين النظرية والتطبيق استوجبت وقفة جادة وحاسمة مع الذات لمعرفة هل (هي لله) كما لُقِّنُوا أم (هي للسلطة والجاه) كما يَرَوْنَ على أرض الواقع. عموما ما يطرحه بعض الإسلاميين اليوم من مراجعات ونقد لسياسة النظام الحاكم هي خطوة متقدمة وشجاعة رغم تأخرها (فأن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا) خاصة في ظل نظام يدعي العصمة ويبرر سوء أفعاله وسياساته بمنظومة فقهية مبتدعة (كفقه السترة وفقه الضرورة) يحاول من خلالها إصباغ المشروعية والقدسية المطلقة على المشين من أفعاله وأفعال رجالاته وغل يد القوى المعارضة وذر الرماد في عيون العامة وقد حان الوقت لأصحاب المراجعات أن يخطو ا خطوة تاريخية إلى الأمام بالانتقال من مربع تغيير المنكر باللسان لمرتبة أكثر إحسان وذلك بالعمل والضغط المباشر لإحداث التغيير المنشود عبر توعية القواعد التي مازالت مخدوعة في سياسات النظام وشعاراته ومشاريعه المدمرة وإلا سيكون جهد هذه المراجعات النقدية مجرد محاولة بائسة لتبرئة الذات وإرضاء الضمير والقفز من مركب الخطايا لقاع الفراغ والعدم، فالتطهر من آثام الأمس لن يتم إلا بالرجوع عنها والتوبة النصوحة منها والعمل المخلص على إزالة أثارها وهذا لن يتأتَّى إلا عبر المواجهة المباشرة مع النظام الظالم.