قبل أكثر من عشرين عاماً – عندما كنت باحثاً اجتماعياً بمصلحة السجون وأنا في طريقي إلى الفاشر أبو زكريا كتبت “استراحة” بعنوان “وداعاً أيتها الطاحونة البشرية”، وقتها كانت الحياة في الخرطوم أرحب ولكنها في فضاءات الولايات أكثر رحابة. لأسباب تتعلق بطبيعة مهنة الصحافة إضافة لفوائد الأسفار المعروفة أزيد عليها سبباً شخصياً في هو هذه الرغبة المتأججة لدي في الخروج من هذه الطاحونة البشرية التي زادت آليات طحنها في السنوات الأخيرة، لذلك أحب السفر خاصة إلى خارج البلاد حيث يكون التغيير أكبر. أقول هذا بمناسبة الرحلة الصحفية التي استغرقت نهار أمس الأول وجزءا من الليل في زيارة إلى مصنع سكر النيل الأبيض الذي يجتهد المسؤولون والمهندسون والعاملون فيه لإدخاله في عجلة الإنتاج في غضون الأسابيع القليلة المقبلة. مدير عام شركة سكر النيل الأبيض السيد حسن عبد الرحمن ساتي حرص على مرافقتنا منذ أن حللنا موقع المشروع ونحن نزور مضخات الري والمشروع الزراعي الذي وقفنا عنده واستعدنا بعض طفولتنا ونحن نقشر قصب السكر ونأكله قبل أن نزور المصنع ونختم زيارتنا بزيارة المدينة السكنية التي لم نستطع الاسترخاء بها لكي نتمكن من العودة إلى الخرطوم قبل أن تغيب الشمس وكان أحرصنا على استعجال العودة ابن اللعوتة البار الدكتور عبد اللطيف البوني. لن نتحدث هنا عن هذا الصرح الصناعي الكبير تاركين أمر الجوانب الاقتصادية لرئيس القسم الاقتصادي ب”السوداني” الدكتور أنور شمبال لكننا فقط نذكر هنا أن هذه المنطقة التي كانت تسمى (العطشانة) تحولت إلى منطقة (رويانة) ومنتجة وبدأت في إحداث نقلة اقتصادية واجتماعية في المنطقة نأمل أن تسهم في سد حاجة البلاد من هذه السلعة الاستراتيجية، ولا يأتي من ينظّر لنا- بعد ذلك- مبرراً زيادة سعر السكر بالتهريب. لقد غبرنا أحذيتنا ونحن نقف على حجم ما أنجز ابتداء من تراب مزارع قصب السكر حتى تراب المصنع وأخذنا جولة مرهقة بعد رحلة الساعتين والنصف صعدنا فيها لمواقع مرتفعة من المصنع ومررنا على أكثر من قسم للدرجة التي جعلت إحدى الصحفيات تقول ساخرة: الآن فقط عرفت لماذا تسمى (الصحافة) مهنة البحث عن المتاعب، فرد أحد المهندسين المرافقين لنا ضاحكاً: لكي تعرفوا أيضاً كيف أن السكر متعب.