لم يكن لقاء رئيس الجمهورية والذي بثته القنوات الفضائية السودانية ليضيف بعداً جديداً أو بريقاً لسياسات الحزب الحاكم تجاه القضايا الملحة في البلاد وعلي رأسها ملفات الفساد والموقف الإقتصادي المتأزم وحلول الخروج من أزمة الحروب التي يشنها النظام وتفرز وضعاً إنسانياً مأساوياً يصعب مداواته تحت دوي المدافع وزخات الرصاص وآلات الحرب .. والحق يقال أن هذا اللقاء عبر القنوات الفضائية كان جزءاً من أزمة البلاد ونكبتها في قيادتها والتي تمثلت في رأس الدولة الذي لم يجد غضاضة في تبرير إقالة والٍ منتخب من قبل الشعب وتحويله بقرار جمهوري إلي ولاية أخري ليتسق ذلك مع سياسة النظام في معالجة الأزمة في إقليم دارفور والذي يقوم علي الجهوية والمحاصصة وسياسة ( فرق تسد ) حتي وإن كان نتاج ذلك مزيداً من الولايات وإمعاناً في توسعة الصرف البذخي علي شاغلي المناصب الدستورية خصماً علي الخزينة العامة المنهكة أصلاً وليس مفهوماً في هذا السياق قول رئيس الجمهورية (بتمرد الوالي موسي كاشا علي المركز) في ظل حكم فدرالي يفضي أصلاً لتقليص ظل النظام المركزي في دولة مترامية الأطراف . بيد أن الأمر الذي لا ينقصه الدليل يؤكد أن رئيس الجمهورية في ذلك اللقاء لم يتردد في التأكيد علي مخالفته لنصوص الدستور الإنتقالي (2005م) الذي وافق عليه هو بشخصه ومهره بتوقيعه والذي ينص علي أن إقالة الوالي المنتخب تتم بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الولائي وليس بقرار جمهوري ..بغض النظر عن الإنتماء السياسي لذلك الوالي كما أن العبث بنصوص الدستور أصبح عادة عند رئيس الجمهورية فقد سبق له إقالة ( مالك عقار ) وتعيين اللواء معاش ( الهادي البشري ) والياً علي ولاية جنوب النيل الأزرق تصفية لخصومة سياسية وخلافات شخصية وهو مؤشر خطير يقود بالضرورة للتأكيد علي أن الرئيس البشير لا زال يتدثر بعباءة الحكم الشمولي العسكري وعجزه عن تجاوز مرحلة الشرعية الثورية إلي مرحلة الشرعية الدستورية سيما وأن الحزب الحاكم يتباهي بأن إستمراره في البقاء علي سدة الحكم جاء عن طريق الإنتخاب وأن الشعب السوداني يعيش في حالة ربيع دائم منذ فجر إنقلاب الإنقاذ علي الحكم الديمقراطي في البلاد . والحالة هذه علينا ألا نذهب بعيداً قبل التعمق في مفردات اللقاء والذي تضمن أسئلته المذكرة التصحيحية للإسلاميين المطالبين بتصحيح المسار ومحاربة الفساد وبدون الخوض في طبيعة المذكرة أو الطعن في مصداقيتها فإن رئيس الجمهورية قد قلل من أهميتها بإعتبار أنها مذكرة من ثلة قليلة في حزب تتجاوز عضويته خمسة ملايين من أفراد الشعب السوداني ( الفَضَلْ) والأمر كذلك فإن الخمسة ملايين ( البشيرية ) هي في حد ذاتها ( بإفتراض صحة العدد ) تفضح أن النظام لا يتمتع بالأغلبية التي تتيح له إكتساح الإنتخابات والتشبث بحكم البلاد عقوداً طويلة إذا كان عدد السودانيين المهاجرين في أرض الله الواسعة هرباً من النظام وجبروته أكثر من عضوية الحزب الحاكم ( تسعة ملايين ) وهذا بإفتراض أن تلك العضوية المليونية لم تتناقص بسبب الموت أو المتسلقين لتحقيق المنافع الشخصية وتغليبها علي مصلحة البلاد . أمر آخر يقرر حقيقة من الأهمية بمكان وهي أن النظام يخشي الحشود التي تعارض طريقته في الحكم ويخاف كذلك في ذات الوقت أصوات المعارضين للنظام ويستبين ذلك في ردود أفعال النظام وأقواله عبر الإعتقالات المتكررة للمعارضين وإرهاب المحتجين بشدة القمع للتظاهرات المناوئة وقتلها في مهدها .. ورئيس الجمهورية كان قد صرح في أكثر من مناسبة أن النظام لا يمانع من المعارضة المكتوبة والأقلام الجريئة وظل يردد : ( بس الشارع ما في زول يطلع ) ويبدو أن الأجهزة الأمنية قد أخذت علي عاتقها تنفيذ هذه السياسة كما أفرزتها الأحداث .. وفي الوقت الذي لا يمانع فيه ( فلاديمير بوتين ) في دولة مثل روسيا تمارس سياسة ( الحزب الواحد ) من تصديق حكومته لخروج تظاهرات وإحتجاجات ضد حكومته ومطالبته بإنتخابات حرة ونزيهة يبدو أن حزب البشير غير مستعدٍ للتصديق علي خروج أي مسيرات سلمية من أي جهة ترفع لافتات ضد نظامه الحاكم إلا إذا كانت هذه المسيرة تؤيد حكمه وأشرف علي تحشيدها ( حاج ماجد سوار ) أمين التعبئة السياسية في الحزب الحاكم. والذي يبدو أن سياسات النظام القائمة علي أسلوب (القرصنة ) وفرد العضلات فيما يختص بأزمة البترول بينها وبين دولة جنوب السودان كانت مبررات رأس الدولة لتلك الحرب أن الغرض منها إستيفاء الديون مبرراً أن نظام الخرطوم ظل يرسل (الفواتير) للنظام الحاكم في ( جوبا) دون أن يحتج عليها وأدخل البشير ذلك في سياق ( الموافقة ) علي المديونية وأن ذلك حجة ضد حكومة جنوب السودان ناسياً أو متناسياً أن العلاقات بين الدولة لا تحكمها الفواتير بل تحكمها الإتفاقيات الدولية والقانون الدولي ..ودون الخوض في أسباب تلك الإخفاقات والتداعيات التي إستبانت بعد تنفيذ إتفاقيات ( نيفاشا) في 9/7/2011م والتي يسأل عنها نظام البشير وحده والتي أدخلت البلاد في دوامة الحروب الإقليمية وقضايا المناطق الحدودية المتنازع عليها وأزمة (أبيي) وإيقاف موارد النفط ما بدا واضحاً في اللقاء أن النظام القائم لا يملك حلولاً آنية للخروج بالبلاد من مأزقها السياسي والإقتصادي الذي خلفته الأزمة بين الدولتين وفي الوقت الذي بدأ ( نافع علي نافع ) مساعد رئيس الجمهورية أسوأ العاقلين عند توقيعه لإتفاقية سلام بين النظام و ( مالك عقار ) والذي أعدم رئيس البلاد نصوصها في غيابٍ كامل لمؤسسية النظام وحزبه الحاكم وتكرس لمبدأ القرارات الفردية التي ينتهجها النظام الحاكم لا يلوح في الأفق أن ( دموع نافع ) التي سكبها بمحلية ( ودبندي ) ستجدي نفعاً أو تعين النظام علي إقناع حكومة ( جوبا) لإستئناف ضخ البترول شمالاً بعد خروج التظاهرات في عاصمة الدولة التي تنادي بعدم الإتفاق مطلقاً مع نظام الخرطوم . وفي الوقت الذي يمضي رئيس الدولة بعيداً في سياسته القائمة علي الإقصاء والحرب ضد خصومه ومخالفة الدستور ونصوصه وصم أذنيه عن سماع أصوات الحكمة والعقل يبدو أن ( الصين ) الحليف الرئيسي للبلاد ليس حليفاً يعتمد عليه في إخراج البلاد من أزمتها لأن دولة الصين التي لم تستحي من أمر مندوبها برفع يده حتي يري بياض ( إبطه ) لإبطال أي مشروع يهدف إلي إحراج نظام ( بشار الأسد ) في سوريا ليستمر في سياسة سفك دماء الشعب السوري بلا هوادة هي ذات الدولة التي أحجمت عن إستخدام حق ( الفيتو ) في العام 2008م لإنقاذ حليفها في الخرطوم ومنع مجلس الأمن من إستخدام سلطاته بموجب الفصل السابع وإحالة ملف دارفور للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وأفرز ذلك مذكرة القبض التي عجز رئيس البلاد منها فكاكاً .. والصين وهي نفس الدولة لن تستحي أن تميل إلي الكفة الأخري من ميزان الصراع ( كفة دولة جنوب السودان ) في حال دخول الدولتين في حرب ثالثة كما أقر بذلك رئيس البلاد والتي تملك ثروة نفطية كامنة في باطن الأرض لا يملكها نظام الخرطوم وفي الوقت الذي تلهث فيه حكومة الخرطوم وتهرول لإستقدام وجلب الإستثمارات الأجنبية للبلاد بلا جدوي لعلم تلك الأموال وأصحابها بإستحالة النمو في الجو الفاسد للمنظومة المالية للنظام ..في ذات السياق وفي الوقت الذي تنادي فيه مذكرة كبار الضباط بالقوات المسلحة بالتروي قبل تسديد النظام لضربة البداية في حربه القادمة ضد دولة الجنوب يبدو النظام غير مكترث لمبررات المذكرة وغير مبالٍ لأطراف أخري قد تصبح طرفاً في معادلة الصراع مثل ( الولاياتالمتحدة ) أو ( إسرائيل ) سيما وهي مقبلة علي إنتخابات رئاسية أو بدأت في علاقة سياسية وإقتصادية مع دولة جنوب السودان وسيرضيها وضعية التدخل المباشر لحسم الصراع في زمان وجيز حفاظاً علي مصالحها ومكتسباتها الآنية والمستقبلية . ومن ثًم هل يؤكد اللقاء رغبة النظام علي لسان رئيس الدولة إستعداد الدولة لخوض حربٍ رابعة في البلاد حتي ولو كان نتاج ذلك خصماً علي إقتصاد البلاد وعافيته في مواجهة دولة تبدو إنها إنتقلت بأقلام النظام من حالة ( كتيبة بور ) المتمردة ضد النظام (المايوي) في العام 1983 إلي دولة ذات سيادة سيدعمها المجتمع الدولي وأصدقائها المقربين في مواجهة نظام يعاني عزلة كاملة ويخوض حروباً في جبهات عدة لا يلوح في الأفق أنها يتنتهي قريباً بمنطق أمراء الحرب الذين يدعون لتأجيج الصراع ودق طبول الحرب طالما أنهم ليسوا طرفاً في وقودها . ومن نافلة القول أن اللقاء المعني والذي كان لا يحمل في أحشائه حلولاً عاجلة سيبدو في نظر كل الذين تابعوه أن رأس الدولة يبشر بحربٍ رابعة ليس ضد الدولة التي إغتصبت مثلث ( حلايب ) الذي تنامت أصوات بنيه بالدعوي إلي ضمه نهائياً للدولة المعتدية والتخلي عن الجنسية السودانية أو في مواجهة الدولة التي يرتع جنودها بموافقة نظام الخرطوم بمدينة ( أبيي) بعد إغتصابهم لأراضي ( الفشقة ) وإنما جاءت بشارات الحرب ونذرها ضد دولة كل خلاف النظام معها سعر الترحيل ( لبرميل النفط) وتتذمر حكومة الخرطوم من ( أجر المناولة ) في وقت تبدو فيه علي إستعداد لغض الطرف عن أي إحتلال قادم أو تدويل للنزاع بين الدولتين . ختاماً يستبين أن النظام وعلي لسان رئيس الدولة لا يبدو في جعبة كنانته أي بارقة أمل لإسترداد عافية البلاد وإقتصادها أو أن ينشر النظام علناً ملفات الفساد بعد أن أقر بوجوده وبهذا ستكون إحصائية الأرقام التي حملها رئيس الدولة والتي تبين عدد القضايا التي تم قيدها في مواجهة الفاسدين وما تم البت فيها وما أسترد من المال العام هي محض أرقام لا تسمن ولا تغني من فساد ولا تعين علي وقف عجلته ..علي ان الفائدة الوحيدة التي خرج بها كل من ألقي سمعه للقاء البشير هي نية النظام وعزيمته علي خوض حرب النفط في مواجهة دولة جنوب السودان وعلي الشعب السوداني أن يستعد ليس هذا العام كما جاء علي لسان رئيس الدولة بل ربما حتي إنتهاء ولايته لخوض حربٍ قادمة يراهن النظام علي طولها بحسابات غير دقيقة وتراهن حكومة جنوب السودان بمعطيات واقعية أنها حرب لن تدوم طويلاً ..فهل سيمضي النظام في سياسة الحرب هذه أم سيتراجع كعهده دائماً ؟؟ إنتظروا إنا معكم منتظرون . عمر موسي عمر- المحامي [email protected]