مثل هذا السؤال يبدو ساذجاً في إطاره العام. لكنه لن يكون كذلك إن كان السائل طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره. أذكر حينما كنت في مثل هذه السن كنت اعتقد أن المثقف هو ذلك الكائن الخرافي الذي يمتلك مفاتيح الحلول لكل مشاكلنا وقضايانا. وهذا الكائن بالضرورة يمتلك طاقة ذهنية وفكرية عالية تمكنه من إكتشاف كل الأشياء ومعرفة أسبابها، لأنه أؤتي الحكمة، ومن أؤتي الحكمة فقد أؤتي خيراً كثيراً. إلا أن ما كنت أحفظه من مفاهيم لم يكن صحيحاً في مجمله كما ظهر فيما بعد. * بعض مثقفينا تبدو أفكارهم بعيدة عن الواقع بعد السماء عن الأرض… وبعضهم يعاني من تضخم مفرط في الذات يفضي بالضرورة إلى انعزال عن المجتمع الذي يعيشون فيه، ولذا من الطبيعي أن يتقلص إسهامهم في حركة المجتمع ونبض الجماهير. والإفراط في الإحتفاء بالأناء من قبل بعض المثقفين أدى بهم إلى خلق جسور بينهم وبين الجماهير من أبناء المجتمع التي لم تعد تثق بما يقوله بعض المثقفين، لأنهم لا ينحازون إلا لأفكارهم، ولا يعترفون بأحد سواهم، لذا فهم يمارسون إقصاء الآخرين ونفيهم. ولأنهم كذلك ظلوا يحلقون في أبراجهم العاجية وأفكارهم الطوباوية، ينتفخون ويتضخمون دون أن يكون لهم ناتج ملموس تتفاعل معه الجماهير، وظلوا كذلك حبيسي أنفسهم وأبراجهم العاجية. أما تأثيرهم وتأثرهم يساوي صفراً كبيراً. * سألتني إبنتي ذات التسع سنوات: من هو المثقف .. وكانت تريد أن تعرف الكلمة نفسها وما ينطوي عليها من معاني. سؤال إبنتي ذكرني بصديقي الساخر الذي طالما كان يسخر من المثقف في مجتمعنا ويقلل من تأثيره. كان يرى أن التأثير الذي يمكن أن يحدثه “التثاقف” في سوق العيش على سبيل المثال أبلغ أثراً من كل ما يقوم به هؤلاء المثقفين … فالسوق عبارة عن ركن للنقاش، ومركز للأخبار، ومكان للمساجلات في كافة ضروب الحياة. وهناك أيضاً فرصة لإبراز المواهب في التمثيل أو الإلقاء أو قرض الشعر، على أقل تقدير ستجد من يتفاعل مع موهبتك .. فالسوق أشبه بمسرح صغير. ولاتقتصر المشاركات عند فئة دون أخرى، إنما تشمل الجميع المتعلم والأمي، ولا تكاد تفرق بينهم فكل يدلو بما عنده في جو من الإنسجام النادر. هي إذن تعد مركزاً “للتثاقف” الحقيقي رغم محدودية زمانها ومكانها وهذا ربما يكون سبباً أن يتآلف الناس، فالمسافات بينهم قصيرة مما يؤدي إلى ردم كافة الجسور التي من شأنها أن تعيق الإتصال المباشر الذي يترتب عليه إحداث التأثير والتأثر السريع. المهم أن إدارة هذا التثاقف يقودها غمار الناس، الذين لم يتلقوا تعليمهم في جامعات أوربا، ولا علاقة لهم بالثقافة ولا المثقفين. * يقول المفكر المعروف إدوارد سعيد أن “المثقف هو الشخص الذي يمتلك الموهبة الخاصة التي تمكنه من حمل رسالة أو وجهة نظر أو رأي وإسقاط ذلك على المجتمع الذي يعيش فيه دون أن ينفصل عنه”. * ووفقاً لرأي الدكتور سعيد يحق أن نسأل: من هو المثقف الحقيقي: الذي يجلس متربعاً بأعلى غصن بالشجرة يحاول أن يطلق صوته في الهواء فيطير الصوت لأعلى لا يسمعه أحد، أم أولئك الذين يتبادلون التجربة، وينتجون الأفكار ويشيعونها بصوت عالي وبساطة متناهية. من الذي يمكن أن نطلق عليه المثقف الحقيقي في هذه الحالة.