عندما تطالع هذا العمود قد أكون واقفاً في أهم صف في حياتي لكي أدلي بصوتي في استفتاء تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وهذا الحدث ليس بالبساطة التي يمكن أن يعتقدها المرء، فقد وصل الجنوبيون إلى هذه المرحلة بعد نضالات مريرة ولعقود عديدة وفي أشكال عديدة وقيادات مختلفة وأطر متعددة ومتنوعة ومختلفة في سبيل الحصول على كيان وتقدير وحرية.. بل واستقلال كما يحدث اليوم عندما اصطف اليوم بمركز الناظر لول الكائن بسوق الرنك الشعبي بمدينة الرنك ولاية أعالي النيل فإنني بكل تأكيد سوف يكون بذاكرتي أناس ليسوا معي ومعنا الآن في مثل هذه اللحظة التاريخية أناس لولاهم ما تمتعت بالكبرياء والعزة التي تعتريني الآن وأنا في الصف منتظراً دوري لكي أدلي بصوتي.. أناس نتذكر بعضهم.. كانوا بالأمس معنا يضحكون ويحزنون ويفرحون ولكن في سبيل أن نكون “نحن” أحراراً نتمتع بالعدل كغيرنا في بلادنا وأن نكون أصحاب حقوق كاملة غير منقوصة كغيرنا.. وأن يكون لنا حق أن نحلم مثل غيرنا أو لا يتم ازدرائي لثقافتي أو لغتي أو لاثنيتي المختلفة عن الحاكمين لكي لا يكون الأمر بهذه الصورة خرجوا يبحثون عن العدالة والحرية والمساواة والتحرر السياسي والاقتصادي والثقافي.. جربوا كل السبل المختلفة لتحقيق ذلك فإنّ الحوار والمطالبة والحديث الصريح هو طريقهم فخدعوا في 1947م عندما حزم الانجليز أمرهم وقرر إلحاق الجنوب وتقديمه “هدية” إلى الشمال نظير الخدمات الجليلة التي قدمتها قيادات الشمال للاستعمار البريطاني في الحرب العالمية. انتظموا في الأحزاب وفي منظمات سياسية لعل ذلك يفيد فلم يكن هناك أي شيء غير الخديعة التي ظهرت ملامحها منذ أول حكومة شكلتها الأحزاب الشمالية تحت الإدارة البريطانية في 1955م.. حتى تم اعلان استقلال السودان بموافقتهم دون أن يعيروا أي انتباه لأي مطلب تقدمت به القيادات الجنوبية حينها فكان فقط مجرد وعد بأن تضع مطالبهم عين الاعتبار عند وضع الدستور الدائم والذي أصبح هذا الوعد فيما بعد “صنيعة استعمارية”.. هكذا… فكانت أكبر خديعة.. بحثوا قبل ذلك عن طرق أنانيا.. وبالنضال المسلح لتحقيق الأهداف القومية لجنوب السودان بأن يسترد سلطته وكذا ثراوته وكذا استقلاله.. ولكن كانوا في نظر المركز مجرد خونة ومارقين وجواسيس لأعداء الأمة مرة إسلامية ومرات عربية… فكل الرفض للمركز لم يفكر المركز يوماً بأن يضع حقوق الهوامش ومطالبهم في المطالب التي يمكن أن تنظر حتى.. وأنظروا ما يحدث الآن في الدوحة.. فعندما تطالب دارفور اليوم بالإقليم الواحد.. يقول لها.. الا باستفتاء.. وهل تم تقسيمها باستفتاء أم بقرار.. وأنظروا لمشكلة أبيي التي ضمت إلى الشمال لأغراض إدارية بحتة وكذلك بلا استفتاء، وحتى الاستفتاء في حد ذاته أمر جلل.. فهو في كف عفريت.. فلماذا تكون قرارات المركز الإدارية في حقوق الإقليم والهوامش قرارات مقدسة لايمكن أن تعدل إلا عن طريق الاستفتاء؟؟.. أقف الآن في الصف وأنا في منتهى البهجة والغبطة التي لا حدود لها.. فأنا وبعد سنين عديدة بوعي كامل أقرر حدود دولتي وشكلها وطعمها ونكهتها.. أقف اليوم وأنوب عن العمالقة الذين أفنوا أعمارهم في سبيل أن يحدث مثل هذا اليوم.. أنوب عن شهداء بأرتال في أزمنة متعددة وفي أوقات متعددة يموتون مبتسمين في وجه العدو الجاهل الذي لا يعرف قدر نفسه.. فقهر لنا ولغيرنا مهما تعاظم وطال والا وأنها إلى الزوال.. وزوالها هو الذي جعلني أقف هنا وسط الرنك وليس في أي مكان آخر لكي انوب عن أبناء وبنات دائرتي الشهداء منذ التركية وحتى الآن في التصويت عنهم وإليهم.. فالصوت الذي أدلي به الآ هو صوتهم للحرية.. صوتهم للاستقلال الذي دافعوا عن نيله لعقود عديدة.. الذي لابد أن يكون واضحاً هنا هو لولا الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قفزت بأساليب النضال من شكلها التقليدي الذي كلف العديد وكلف زمناً طويلاً لولاه بالطرح المتقدم الذي ركز في فتح وعي الناس. خاصة كل المظاليم في هذا البلد لولاه لما وصلنا في هذه اللحظة التاريخية.. الصفوف الطويلة من الشهداء واللاجئين والنازحين والمرضى وغيرهم من المعاقين من الجنوب كل هذه الصفوف الطويلة تختتم بهذا الصف الذي يتمنى المرء أن يمكث فيه الساعات حتى يقف فيه مع نفسه ومع تاريخه وتاريخ بلاده.. صوتي اليوم لحريتي.. وهو استقلالي من نظام ومركز تسلطي قام على الغش والخداع ويحكم بالغش والخداع والحديد والنار.. مركز لا مستقبل له البتة خاصة عندما ينظر رفاقي بجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان وأقصى الشمال بل حتى في وسط السودان المزارعية والرواعية وعمال المدن.. عندما ينظرون في صفي هذا وأحمل بطاقتي هذه والتي سوف أضعها في صندوقها الذي سوف تتحول نتائجه إلى حريتي واستقلالي سوف لم يكون لهم أي هم آخر إلا لابتداع كيف يتخلّصون من عبء هذا المركز الظالم.. انني سأصوت لاستقلال جنوبا لسودان فليس هناك سبيل آخر.. لأن يترآى لأي عاقل يمكن أن يجعل هذا الشعب سعيداً ويخرج من وهدته إلى ساحات أرحب من العمل والابداع والبناء بدلاً أن نستمر في نضال طويل.. يدفع فيه الجنوبيون وزر الحرب ومآسي الحرب لأوقات لست على يقين متى؟؟.. فطالما هذه هي الفرصة المتاحة لنا ولشعبي فدعوتي لهم بأن يصوتوا مثلما سوف أفعل بعد هذا الصف الطويل باستقلال جنوب السودان.. فلنحيي كل شهداء الحركة الوطنية السودانية الذين حاولوا إعادة الأمور إلى نصابها ولم يدركوا ذلك على رأسهم على عبد اللطيف ورفاقه والتحية لشهداء الحركة الشعبية الذين ناضلوا بأن يغيروا المركز حتى تتمتع كل أقاليم السودان بالحرية والمساواة.. التحيّة وعلى رأسهم يحيى بولاد ويوسف كوة مكي والتحية لناشقاك ورفاقه ولأعظم أبناء هذه البلدة بنج كور والقائد الذي لن يغيب ذكره عنا أبداً جوك يوسف نقور.. الذي كان بصوته يفتتح إذاعة الجيش الشعبي ويختتم.. التحية لمؤسسي الحركة والجيش الشعبي الذين فقدناهم في مواقع ومساحات مختلفة فوليم نون وكاربينو كوانين بول وأروك طون وجوزيف أوهو ورتل من الشهداء العظام المعروفين والمجهولين… التحيّة لهم وهم في آخر فصل من نضالات الشعب الجنوبي المسلح والتحية لهم وهم يفتتحون نضالات الشعوب السودانية الأخرى المسلحة فلولا بولاد لما تشجعت دارفور وشرق السودان لنيل حقوقهم بقوة السلاح ولولا المعلم يوسف كوة لما تشجع جنوب كردفان على الرغم من نصالات الأب غبوش منذ الستينيات.. أخيراً فالقائد المفكر الدكتور جون قرنق دي مبيور قائد وطنياً تقف جواره كل القيادات الوطنية الأخرى بجواره أقزاما ليس إلا فهو الملهم لكل الشعوب في السودان للتحرك لكسر هذا المركز المتجبر.. فهو ملهم شعبي الذي يقف في هذه الصفوف لنيل استقلاله.. وهو ملهم شعب الفونج لكي يتنفض ويستعيد أمجاده.. كما يفعل الآن المك مالك عقار.. وهو يصارع بألا تجهض قوة الظلام المشورة الشعبية.. ولا أذيع سراً إذا قلت أنني أتمنى أن تتطور هذه المشورة إلى أرحب منها.. فما نيل الاستقلال إلا أعظم المنجزات الإنسانية.. وسلوك المركز وضيق أفقه سوف يدفع الفونج والنوبة في طريق الاستقلال كما نحن الآن. ولأنّ سكرات الحرية والاستقلال عندما تمتلك المرء فإنه لايستطيع التواصل المنتظم مع أناس أحببتهم وبادولني آراؤهم في هذه الزاوية منذ ثلاث سنوات.. فانني اعتذر لهم عن عدم تمكني من المواصلة اليومية معهم طيلة مدة التصويت. أخيراً دعوة متكررة إلى كل الشباب والشابات والنساء بالذات لأنهنّ الأكثرية (52% من المسجلين في الجنوب نساء) أدعوهنّ بأن يعلمن بأنّ صوتهنّ هو حريتهنّ هي استقلالهنّ.. فصوتي.. حريتي.. استقلالي.