عندما كنت اتجول في انحاء الخرطوم صباح الاحد الماضي كان (سودان بوكشوب) مغلقاً وتعجبت وتساءلت ان كان ذلك الاغلاق بصفة نهائية ، فقد كانت تلك المكتبة العريقة التي تقع في عمارة بشارع البرلمان تعاني من الركود منذ اكثر من عقدين من الزمان، فقد انصرف كثير من المثقفين السودانيين عن المكتبات في الآونة الاخيرة (الزمن الرديء) مع انهم لم يزهدوا اصلاً عن القراءة الجادة. ولكن كما يقول المثل فان (العين بصيرة واليد قصيرة) اصبحت المعيشة صعبة. بل يبدو ان الشمس قد غربت عن طبقة المتعلمين القدامى أو بالاحرى المثقفين في البلاد أو ما يسمى بالطبقة المتوسطة - فلم يعودوا قادرين على اقتناء الكتب- فلجأ قطاع كبير منهم الى وسائل اعلام اخرى رخيصة في متناول اليد، مثل الصحف والمجلات والفضائيات واخيراً شبكة المعلومات (الانترنت). ومع ان بعض المكتبات مازالت تنشط في مجال التجارة بالكتب - بل ان بعضها قد افتتحت حديثاً- إلا ان سوق الكتاب مازالت متعثرة بسبب الارتفاع المتواصل في اسعار المواد المطبوعة. خلال تجوالي الاسبوع الماضي عادت بي الذاكرة الى الستينيات من القرن الماضي عندما كانت سوق الكتاب مزدهرة فأسعاره كانت زهيدة يمكن شراء اي كتاب يعجب امثالنا محدودي الدخل، واذكر انني كنت اتردد على ( سودان بوكشوب) في اواخر السبعينيات ابحث عن الجديد في عالم المطبوعات، خاصة العدد الاخير من (سايكولوجيست) وهي مجلة نصف سنوية على ما اذكر مخصصة لهواة علم النفس تشرح هذا العلم المثير ببساطة يفهمها اي قاريء عادي مثلي. اما هذه الايام فاننا نكتفي بتقليب المطبوعات في رفوف المكتبات.. ولكن رغم ان المعيشة اصبحت اكثر صعوبة في هذه الايام العجيبة فان الواحد منا احياناً يتجرأ (ويدق صدره) ويغامر بكل ما في جيبه عندما تقع عيناه على كتاب طالما سمع عنه وكان يتطلع لقراءته. ورغم ذلك الركود ظل بعض رجال الاعمال - المثقفين منهم على الاخص - يتمسكون بهذا الضرب من التجارة، والمثال على ذلك جرجس - آخر مدير لسودان بوكشوب الذي افتتح محله الخاص- (مكتبة مروي) في نفس الشارع شرقاً بعمارة الشيخ مصطفى الامين ولكنه توفى مأسوفاً عليه قبل عدة سنوات. وعادت بي الذاكرة ايضاً الى مكتبة اخرى في شارع الزبير بجوار فندق فكتوريا بشارع القصر وصاحبها الاغريقي الخواجة بنيوتي، (خرطوم بوكشوب) كانت تعرض كتباً معظمها باللغة الانجليزية اشهرها (النيل الازرق)، و(النيل الابيض) للكاتب الاسترالي الني مورهيد والكتابان من اشهر كتب الرحلات تحكي المغامرات المثيرة للرحالة الغربيين الاوائل الذين يعود اليهم الفضل في اكتشاف منابع اعظم واطول نهر في العالم بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. (خرطوم بوكشوب) كانت تستورد كذلك نسخاً محدودة من بنش (PUNCH ) المجلة اللندنية الشهيرة التي بدأت الظهور في اواخر القرن الثامن عشر. وقال لي الخواجة بنيوتي ذات مرة عندما طلبت منه نسخة من تلك المجلة التي كنت احرص على الاطلاع عليها ان واحدة من تلك النسخ كانت مخصصة (لسودان كلوب) النادي الذي كان يرتاده أعضاء الجالية البريطانية، وكان المرحوم عزالدين عثمان - الكاريكاتيرست الشهير- احد المشتركين القلائل في المجلة البريطانية التي كان يشارك في اصدارها مجموعة متميزة من الكتاب والسياسيين الليبراليين وكان بينهم اعضاء من البرلمان البريطاني، واشهر رسامي الكاريكاتير في ذلك الوقت.