حياة قصيرة متدحرجة عاشها الراحل الفنان محمود عبد العزيز بين موهبة ساطعة ومحاولات متكررة للتجريب المُر والجميل، حتى صنع لنفسه في زمن وجيز مكانه خاصة ولائقة وسط قطاع واسع من جماهير الشباب . أول مرة أسمع بالراحل المقيم العام 1995م فقد أهداني أحد الأصدقاء « شريطاً « له... فداومت لمدة شهر كامل أسمع له... وأتعرف على مساحات صوته و طريقته في الغناء... ومنذ ذاك انتبهت لقدرته الفنية الفذة تحاول أن تملأ فراغ التسعينات من القرن الماضي . حيث كانت الدولة السودانية مشغولة تماماً بتحقيق التوازن العسكري في جبهة الجنوب للوصول بسلام عادل يخرج البلاد من دائرة الاستهداف التي استفحلت في تلك الأيام بعد معرفة هوية الثورة الوليدة... وكما أشار الصحفي اللامع (هيثم كابو ) رئيس تحرير جريدة فنون أن الساحة الفنية السودانية كانت خالية على عروشها، و الشباب السوداني يتعلق بفنانين عرب أمثال كاظم الساهر وأصالة ونجوى كرم... في هذا الزمان بدا الفنان محمود عبد العزيز بسمرته الفاقعة وطريقته الجاذبة في الغناء وصوته القوي الشجي يشق له أفقاً جديداً في ذاك الزمان المرتبك . فالدولة السودانية ومشروعها يواجهان حملات ضاربة من الاستهداف لا تتركه ينظر لقضايا تجاوزها على مستوى التنظير بشكل كاف . فمنذ بداية الثمانينات من القرن الماضي وفي مسجد جامعة الخرطوم أقام شيخ (حسن) ندوته الشهيرة عن حوار الدين والفن... حدثت مسائل عديدة انتجت مؤسسات وحراكاً ثقافياً باهراً تتمثل في منظمة نمارق للآداب والفنون... وبرغم قلة امكاناتها إلا أن فعلها وقدرتها على التأثير كان قوياً وفاعلاً. ابتليت الساحة الفنية في الآونة الأخيرة بفقدان عدد مقدر من المبدعين الذين صاغوا وجدان الشعب السوداني بجميل الأشعار والألحان والأصوات، وأبرز الراحلين الفنان المقيم محمد وردي الذي كان يحسب على اليسار... ولكن قدرة وردي الفنية واحتشاد الجماهير حوله... نصّبه في مقام القومية الرفيع ... لكن كان لمحمود عبد العزيز موتة متفردة ... لمّا لازم هذا الرحيل من تداعيات تجعل العديد من الأسئلة تتقافز إلى الذهن!!! يذكر كل منْ ارتبط بالفنان محمود عبد العزيز انه كان خجولاً ومتواضعاً ويدرك أقدار منْ شجعوه في المجال الفني... غير انه يعشق فنه ويحترم جمهوره الذي وصل معه مدى أشبه ( بالوله ) .. برغم أن الراحل في تجّريبه المستمر لاحقته الشائعات وأصابه الأذى والمرض... والبعض يرى ان هذا جزءاً من عبقريته الفنية والإنسانية. المهم ان موت فنان قد ترك أسئلة غير مسبوقة من قبل في علاقة الفن بالسياسة والأمن والمشروع الحضاري!!! 2 لا أدري من الذي أشار للفنان محمود عبد العزيز أن يتم علاجه بالأردن وخاصة مستشفى ابن الهيثم، الكل بمن فيهم سفير السودان في الأردن لم يجدوه إلا في العناية المركزة بالمستشفى وهذا خيار الأهل في المقام الأول. قدم بقليل أو في ذات الوقت الأستاذ هيثم كابو وفي معيته عادل أحمد المشاغب وصديقنا القديم الجنرال حسن فضل المولى مدير عام قناة النيل الأزرق الباذخة، التي تكافح لتطارد الفعل الثقافي والاجتماعي بجمال وعفوية رغم المضايقات التي تأتي من هنا وهناك وتستجير بالحكومة لتوقف برنامجاً جماهيرياً أو تنبيه لحالة تلبس لمذيعة أضافت جرعات جمالية أكثر من اللازم... المهم هذه قصة أخرى... ليس هذا مكانها لكنها مقياس للحالة الرثة للفعل الثقافي قاطبة. السفارة في عمان أدركت من الوهلة أهمية الحدث وكونت مجموعة عمل على رأسهم المستشار الطبي بحكم الاختصاص... وبين أهل الصحافة وخطوات الدبلوماسية الحذرة دارت معارك صغيرة ولذيذة... لم يستطع من يودون كتمان الأمر، وبين من يحاولون الشفافية على أقصى درجاتها بدون مراعاة لأية خصوصية. بعد رحيل الفنان أجرى مع الفريق عبد القادر يوسف أرفع شخصية قيادية في جهاز الأمن الوطني والمخابرات حواراً عن علاقاته بالفنان والإجراءات والعلاقات بينهما... وفي اعتقادي أن تصريحات الفريق عبد القادر يوسف جانبها الصواب في عدة مسائل نذكر أن الكثير من الإلتباس يشوب علاقة المواطنين بجهاز الأمن لخلفيات تاريخية بعيدة لا صلة لها بالموضوع... ثم من صميم عمل الجهاز أن ينبه بأهمية المسألة لتنشط مؤسسات أخرى ذات صلة، لا أن يقوم بنفسه لتأدية الواجب كاملاً ويلغي هيئات قائمة تدرك بحكم تكوينها خصائص هذه المهن وحساسيتها... هذا ما جعل من إدراك المدير العام للجهاز بإرسال طائرة لنقل الجثمان عاجلاً للخرطوم وفي نجاح كبير... بينما أخفقت الأجهزة الأمنية ومن بينها الأمن في حماية المطار من الاستباحة وإدراك النتائج المترتبة من موت فنان. هذه الملاحظات تثير أسئلة في العلاقات بين أجهزة مختلفة لها اختصاصات متداخلة، حيث يرى بعض المتابعين أن توغل جهاز الأمن يجئ بمسوغات موضوعية ولكنها تظُهر ضعف مؤسسات أخرى وسط سطوة ذاك الجهاز!!!! الفنان ( محمود ) في تطوره السياسي انتمى للحركة الشعبية لتحرير السودان والتي رفعت شعارات باهرة تتعلق بالمهمشين، ولكن سرعان ما أدرك خطل الفكرة، فالمؤسس جون قرنق خان فكرة الوطن التي ينتمي لها الفنان انتماء فطرياً (محمود عبد العزيز) انتقم للفنان في تمرده وفي تجريبه المستمر للبحث عن الجمال.. ثمة ملاحظة مهمة لماذا فعل جمهور الفنان كل ما فعله بعد فقده الموجع؟؟... لا أعتقد أن هنالك إجابات حقيقية ومن الواضح أثر تطور برنامج التواصل الاجتماعي الجديد، وشكل المحاكاة والتجريب أيضاً، برغم أن غالبية الجمهور مؤمن بحالتي الحضور والغياب إيماناً قاطعاً. _3_ موت ( فنان ) فجّر أسئلة في السياسة ... وهي حالات التهافت من الأحزاب السياسية تجاه موت ( محمود ) ... وكأنها تبحث عن الجماهير الحاشدة التي بكته ... ولكن ثمة خلافاً بين الجمهور السياسي والثقافي، ولذا يحزن المرء على أحزاب المعارضة التي تفتش بلهث عن الجماهير!!!. أيضاً من المناطق المظلمة التي أضاء النور فيها موت فنان ... أن مؤسسات الحزب الحاكم الشبابية، بعيدة كثيراً من لغة العصر والتواصل مع الفعل الجماهيري الكبير سواء ثقافيا أو اجتماعيا. حقيقة لا يريد المرء من حزب كبير أن يمثل فيه شباب يحاولون التشبه بالسياسيين الذين أمامهم، بل يمثلون إبداعهم وطريقتهم الخاصة في التفاعل مع ما هو اجتماعي وثقافي ... أعتقد ان تلك الجهات معتمة كثيراً بما هو سياسي وهذا خطأ كبير في وجهة نظري !!! . الدرس الذي يستفاد من رحيل فنان أن تنشأ مؤسسات حقيقية تعتمد الموهبة والعمل الناجح، لا تعتمد على أخرى ولها قدرات إدارية ومالية طبيعتها مختلفة مما يسبب إرباكاً شديداً. بعض الجماهير المحبة للفنان الراحل سعدت جداً من ترديده للمدائح والتغني بها ... وهذا طبيعي في مقام محمود عبد العزيز الذي صدح منذ سرور إلى سكت الرباب وتجربته الفذة مع د. الفاتح حسين ... ففنان كهذا معبأ بالإيقاعات المختلفة خاصة ( النوبة ). في اعتقادي أن رسالة الراحل محمود عبد العزيز أرسلها بشكل مباشر ... وهو يتحدث مع جماهيره في إحدى الحفلات، أن يغنوا للسودان أولاً وردد ذلك وكأنه يضفي لتجربته الغنائية قومية عالية لا تنتمي لحزب أو فئة أو جماعة، أما وصيته الثانية وبرغم إشاراتها السياسية إلا أنها دعوة شاملة للشباب السوداني أن لا تسقط راية السودان أبداً ... وهذه وصية غالية تتجاوز كل ملابسات الرحيل المفجع. أما الذين حيرّتهم تصنيف الراحل محمود عبد العزيز الفنان الاستثنائي بسمته وغنائه وقلقه ومرضه ما خطه خال ( الفنان ) على نعشه أثناء إغلاقه فقد كتب: محمود عبد العزيز خادم النبي !!! وهذه حقيقة ... فمن أية زاوية تقف لترى المشهد !!.