مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ميليشيا الدعم السريع ترتكب جريمة جديدة    بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرضاوي: الفقه أعم وأشمل بكثير من معناه الاصطلاحي ... الطبيب إذا نوى نفع الأمة والمرضى فهو في عبادة وجهاد
مؤكدًا على تعرض معنى «الفقه» للاختزال
نشر في الرأي العام يوم 22 - 08 - 2009

ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والذي يقدمه أكرم كساب. العلامة القرضاوي، اعتبر في الحلقة الأولى من البرنامج أن كلمة «الفقه» تعرض معناها للاختزال، وأن لها معنى قرآنيًا ونبويًا يتجاوز بكثير معناها الاصطلاحي المعروف في كتب الفقه، وهذا المعنى يشمل جميع مناحي العلوم، وليس فقط العلم الشرعي. ورأى القرضاوي أن «الطبيب المتفوق إذ قصد بعلمه أن ينفع الأمة ويداوي المرضى، فهذا عبادة في حد ذاته، وجهاد في سبيل الله إذا صحت فيه النية»، كما شدد على أن المقصود في قوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)، ليس فقط العلماء في أسرار الشرع، وإنما أيضا العلماء في أسرار الكون. وتطرق القرضاوي إلى عدد من الأنواع التي تندرج تحت الفقه بمعناه الواسع، ومنها: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، موضحًا المقصود بكل منها، ومدى أهميته للأمة والفرد.. ................................................................................................................................ ** عرضت على فضيلتكم أسماء عدة لمثل هذا البرنامج، لكنكم أبيتم إلا أن يكون الاسم هو «فقه الحياة»، فما المقصود ب «فقه الحياة»؟ ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه. وبعد... فأنا أردت أن يضم اسم البرنامج هذين المعنيين، معنى مضاف ومضاف إليه: فقه الحياة، ما معنى فقه الحياة؟ أنا لي تفسير لكلمة «فقه»، حيث إن الناس كثيرًا ما ظلموا كلمة الفقه، وهي من المعاني والأسماء التي بدل الناس معانيها، وذكر الإمام الغزالي في كتاب «العلم» من كتاب «الإحياء» أن هناك أسماء بدلت، كان لها في القرآن معنى، وكان لها في السنة معنى، وكان لها عند الصحابة وتابعيهم معنى، فجاءت العصور المختلفة وبدلت معناها، من ذلك كلمة الفقه، وكلمة التوحيد، وكلمة الحكمة، وبعض الكلمات التي أصبحت لها مصطلحات غير مصطلحاتها في كتاب الله وفي سنة رسول الله. فإذا نظرنا في القرآن الكريم نجد كلمة «فقه»، يفقه» و»يتفقه» لها معنى غير المعني المصطلحي المعروف، وهو: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، والتي يقصد بها القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. هذا معنى مطروق للفقه، لكن حينما نقرأ القرآن المكي، أي قبل أن تنزل الأحكام الشرعية في الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والبيوع، والمعاملات، والحدود، فهذه الأمور كلها نزلت في القرآن المدني، الذي بدأ ينظم حياة المجتمع الدينية والدنيوية، بعد أن أصبحت للمسلمين قاعدة وأرض صلبة نجد أن كلمة الفقه قد وردت في آياته رغم أنه لم تكن هناك أحكام تفصيلية قد نزلت بعد، مثل قوله تعالى في سورة الأنعام (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)، وتكررت ب (قوم يفقهون) في أكثر من موقع، ولما هدد الله الناس بأنه القادر على أن يبعث (عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) وهكذا ويقول في سورة الأعراف (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) . ** هذا كله في القرآن المكي؟ نعم القرآن المكي، وفي القرآن المدني أيضًا نفى عن المشركين الفقه، وقال (بأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) أي ليس عندهم فقه، وليس عندهم بصيرة، وليس عندهم نور يميزون به بين الرشد والغي، وبين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. الجهاد المدني ** إذن فضيلتكم ترون أن كلمة فقه الآن فيها نوع من الاختزال لمعناها الكبير والأعم. الفقه القرآني، والفقه النبوي، حتى الرسول، الحديث الذي بدأت به في الحلقة «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، ما معنى يفقهه في الدين؟ هل يقرأ كتاب «نور الإيضاح» في الفقه؟ لا فالفقه في القرآن حتى حينما قال (وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) نجد أنه يوزع الأدوار، فلا ينبغي أن يعمل كل الناس في الجانب العسكري، ويهملوا الجوانب الأخرى، فالحياة لا تستقيم بهذا، ولا بد أن نسد الثغرات كلها، لا أن نهتم بناحية ونهمل ناحية أو أكثر. ** أود فضيلة الشيخ أن نتوقف عند أكثر من لفظة وردت في الآية السابقة: (نَفَرَ)، (طَائِفَةٌ)، (لِّيَتَفَقَّهُوا) لماذا هذه الألفاظ، وماذا وراء هذه الألفاظ بالذات. القرآن الكريم كتاب معجز، كل لفظة لها معناها ودلالتها وإيحاؤها، حينما أراد القرآن أن يعلم المسلمين كيف يوزعون أنفسهم على جوانب الحياة، ومنها جانب العلم، والفقه، استخدم هذه الكلمة (فلولا نفر) وهي تستخدم في النفير للجهاد، (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً)، (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) كأنما يعتبر هذا العمل دربًا من الجهاد. أنا سميت ذلك في كتابي (فقه الجهاد)»جهادًا مدنيًا» فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»، ولذلك اعتبر العلماء وجود علماء متخصصين متبحرين، يرجع إليهم في كل علم، اعتبروا هذا فرض كفاية على الأمة. ** وهذا يؤخذ من كلمة «طَائِفَةٌ» ؟ حجم هذه الطائفة يكون حسب عدد الأمة، وحسب الحاجة، وحسب الاتساع، وهذا حتى في علم الدين وعلم الدنيا، من الهندسة، والطب، والرياضيات، والقرآن في القلب (لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) المقصود بها فقه أعم من الفقه الاصطلاحي المعروف، ولهذا نحن نريد أن نخرج من هذا بأن الفقه الذي نريده هو أوسع دائرة من الفقه الرسمي الذي نطلبه في كتبه المعروفة. «الجهاد بالطب» ** قبل أن ندخل في هذا المعنى الواسع، أود أن أقف عند قولكم بأن التفقه هو في أمور الدين وفي أمور الدنيا كذلك، بعض أبنائنا وشبابنا وإخواننا ربما الواحد منهم يتأهل لكلية الطب، أو الهندسة، وفجأة بعد أن يدرس سنة أو سنتين يريد أن ينتقل من كلية الهندسة ليتفقه في دين الله عز وجل ربما امتثالاً لهذه الآية، فهل هذا الفعل صحيح، وماذا نقول له؟ إذا كان طبيبًا متفوقًا في طبه وقصد بعلمه هذا أن ينفع الأمة ويداوي المرضى، ويساهم في خدمة الطب العالمي، ويرقى بالأمة الإسلامية، بدل أن تصبح الأمة عالة على غيرها، فهذا عبادة في حد ذاته، وجهاد في سبيل الله إذا صحت فيه النية؛ لأن الإسلام يريد من الأمة أن تستغني بقواتها الذاتية عن غيرها، وللأسف نحن أمة كبرى وعددنا مليار ونصف مليار، وربما أزيد، ومع هذا في كثير من الأشياء نحن عالة على غيرنا، أنا أقول نحن أمة في الغالب بلادها زراعية، ومع هذا أكثر بلادنا تستورد أكثر من نصف القوت، ونحن أمة سورة الحديد ومع هذا لم نتعلم صناعة الحديد، وعندنا سورة تقول: (وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وفيه بأس شديد إشارة إلى الصناعات الحربية، ومنافع للناس إشارة إلى الصناعات المدنية. ومع هذا نحن لم نحسن الصناعات الحربية، ولا الصناعات المدنية، الله تعالى يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، ونحن لم نستطع أن نعد هذه القوة كما ينبغي ؛ لأننا عال على غيرنا، فالأمة التي لا تملك أن تصنع السلاح الذى تقاتل به، وأن تزرع الأرض التى تأكل منها، وأن تصنع الآلات التي تحتاج إليها أمة ضعيفة، أمة معرضة للخطر، فلذلك أنا أقول لهذا الشاب: إذا نويت بعملك هذا وجه الله عز وجل فهذا عبادة في حد ذاته، وجهاد في سبيل الله إذا صحت فيه النية. ** إذن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وأن من في السموات ومن في الأرض يستغفر لطالب العلم»، هذا ينطبق على متعلم الحديث، والفقه، والتفسير، وينطبق كذلك على الصيدلاني. هذا ينطبق على كل علم نافع، أنا كتبت في هذا كتابًا اسمه «العقل والعلم في القرآن الكريم» وجعلت فيه بابا أبين فيه أن العلم المراد ليس هو الذي جاء في القرآن والسنة، وليس هو العلم الشرعي وحده، فحينما يقول تعالى في الشمس والقمر (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي شيء يعلمون هنا؟ ويقول (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) ما دخل العلم الشرعي باختلاف الألسنة والألوان؟. حتى الآية التي قالت: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ). بعد أن ذكر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أشارت إلى علم الحيوان، وعلم النبات، وعلم الجيولوجيا، (مِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا) وبعد ذلك قال (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)، أي علماء في أسرار الكون، ليس فقط العلماء في أسرار الشرع. السنن لا تحابي أحدًا ** إذن فضيلة الشيخ نعود مرة ثانية إلى الفقه بمعناه الواسع، أي بالمعنى القرآني والنبوي، وما أنواع الفقه التي تريدون أن تتحدثوا عنها؟ أنا تحدثت عن هذا الفقه المنشود في عدد من كتبي، وذكرت أن هذا الفقه يشمل أول ما يشمل فقه السنن، فنحن نعلم أن لله تعالى سننًا أي قوانين عامة، كونية، واجتماعية، تحكم الكون وتحكم الأمم والمجتمعات كما يقول الله تبارك وتعالى (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ). هذه السنن تعامل الناس جميعًا، سواء المؤمن والكافر، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، ولو شخص كافر بدأ يحرث الأرض ويهيئها ويزرعها تعطيه نباتًا، ولو المسلم تكاسل لن تعطيه أي شيء، ولو ظل يصلي ألف ركعة، فالأرض لن تعطيك إلا إذا زرعتها، وأمامنا الكيان الصهيوني الذي أخذ بعض الصحارى في فلسطين وحولها إلى جنات خضراء، وكانت في أيدينا مئات السنين، ولم نفعل هذا، فالسنن من شأنها الشمول، والعموم، والثبات (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ونحن عندنا نقص في فقه هذه السنن. **إذن هذا أول نوع من أنواع الفقه، وهو فقه السنن الكونية. وكذلك الاجتماعية، أي سنن كونية واجتماعية، لأن كثيرًا مما علق عليه القرآن سننًا اجتماعية في قيام الأمم وسقوطها، وقيام الدول وذهابها، وهذه سنن يجب أن تراعى أيضًا. ** يدخل في هذا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). هذه سنة من سنن الله، وهي سنة التغيير، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) وكذلك سنة التداول (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وسنة النصر (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
المُؤْمِنِينَ)، وهناك سنن كثيرة يجب أن تراعى. المقاصد والمآلات ** وما النوع الثاني من أنواع الفقه الذي تودون الحديث عنه؟ هناك فقه المقاصد، كما أن لله في كونه سننًا، له في شرعه مقاصد وحكمًا، فهو لن يشرع شيئًا عبثًا ولا اعتباطًا، كل ما خلق الله بحكمة، وكل ما شرع الله بحكمة، ومن أسمائه تعالى «الحكيم»، وهذه ذكرت في القرآن مع «العليم» «عليم حكيم» وأيضا «عزيز حكيم». فهو حكيم فيما خلق، كما قال أولو الألباب، حينما فكروا في خلق السماوات والأرض (ربنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وكما لا يخلق شيئًا باطلاً، أيضا لا يشرع شيئًا عبثًا، وكل ما يشرع له حكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهذا أمر متفق عليه بين علماء الأمة عامة، أي تعليل الأحكام؛ لأنه على أساسه يبنى القياس، أي أن تعطي شبه الشيء حكم الشيء إن اشتركا في علة واحدة، والظاهرية فقط هم الذين رفضوا تعليل الأحكام ورفضوا القياس، ولكنا نؤمن بأن لله تعالى حكمًا ومقاصد. ** ما النوع الثالث من أنواع الفقه؟ النوع الثالث من أنواع الفقه، وهو فقه المآلات، إذ ينبغي للفقيه خصوصًا الفقيه الذي يفتي الناس ويعلمهم أن يعلم أن هناك مآلات أي نتائج وآثار تترتب على الأحكام، ولابد أن تكون هذه النتائج والآثار نصب عينيه. والقرآن ذكر لنا من ذلك نموذجًا في قصة الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام حينما خرق السفينة، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) فمآل هذا الأمر الغرق، قال له (أَلَمْ أَقُل إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)، (قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) المهم في نهاية الرحلة أراد أن يبين له أن المآل الذي قصده ليس هو الذي فهمه، فهو لا يريد أن يغرق السفينة، وكيف يقدم عاقل على خرق سفينة هو يركبها، ولكن قال له: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فهذا الملك الجبار المتعدي، ككثير من الأباطرة، والأكاسرة، والقياصرة، وحكام هذه الأيام، هم لا يبالون بالملكيات الخاصة، ولا يبالون بحقوق الشعوب، فهذا الملك كلما وجد سفينة صالحة جميلة، ضمها إلى الأسطول الملكي، ولكن الخضر عليه السلام عرف هذا، فأراد أن يحدث عيبًا في السفينة لينقذ السفينة لأصحابها، وحينما جاء مندوب الملك ونظر وجد السفينة مخرومة، فنجت بهذه، وهذا النموذج مثال في فقه النظر إلى المآلات، مآل هذا الخرق هو النجاة، وأيضًا مثل أنك قد تحدث فسادًا في البعض لتنقذ الكل، فهذا فقه. النبي عليه الصلاة والسلام حينما اقترح عليه بعض الصحابة، أن يتخلص من المنافقين، عبد الله بن أبي ومن معه، والذين يكيدون للمسلمين ويمكرون بالنبي ويفعلون ما يفعلون، قال عليه الصلاة والسلام: «أخشى أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه». فقه الموازنات ** إذن لا بد للفقيه أن ينظر إلى مآلات الفعل أو القول أو الحكم الذي يأتي به الإنسان، فما النوع الرابع من أنواع الفقه؟ فقه الموازنات، الموازنات بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد أيضًا بعضها وبعض؛ إذا تعارضت المصلحة مع المفسدة، وقد يكون الإنسان أمامه مصلحتان فلابد أن يراعي أيهما أهم وأقوى، فيضحي بالمصلحة الصغيرة من أجل المصلحة الكبيرة، أو المصلحة العارضة من أجل المصلحة الدائمة، أو المصلحة التي تتعلق بأفراد أو مجموعة صغيرة من أجل المصلحة التي تتعلق بمجموع أكبر، أو المصلحة الشكلية من أجل المصلحة الجوهرية. وأضرب لك مثلاً بهذه المصلحة الشكلية، النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، عندما طلب كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» قال المشركون: لا نعرف «بسم الله الرحمن الرحيم»، ما المطلوب؟ قالوا: باسمك اللهم، هذا مسألة شكلية، فما دام ذكر الله موجود يكفي باسمك اللهم. ثم قال الرسول: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنت رسولًا ما كان حدث شيء كهذا، ما المطلوب؟ محمد بن عبد الله، فقال الرسول: امحي يا «علي» محمد رسول الله، قال «علي»: لا أبدًا، قال الرسول: أنا أمحوها، والرسول كان أميًا، وإنما قطعًا يعرف اسمه إذا ذكر أمامه، فبعد كلمة محمد حذف «رسول الله». المهم أنه إذا تعارضت المصالح نضحي بالأضعف في مقابل الأقوى، والمفاسد نفس الشيء إذا تعارضت المفاسد والمضار بعضها ببعض، يعني يرتكب الضرر الأضعف مقابل الضرر الأشد، أو يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ويتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى. وذلك الناس تقول دائمًا: يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، وكذلك إذا تصادمت المصالح والمفاسد، بعضها ببعض، نرى أيهما أقوى، المصلحة هنا أقوى أم المفسدة أقوى، والقرآن ذكر لنا نموذجًا من قضية الخمر والميسر (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا). فقه الأولويات ** إذن فقه الموازنات هو الذي يجعل الإنسان يوازن بين المفسدة والمصلحة، أو بين المصلحة والمصلحة، أو بين المفسدة والمفسدة، ماذا يأتي بعد فقه الموازنات؟ يأتي فقه الأولويات، ومعنى فقه الأولويات أن تبحث أي الأمرين أولى، فنحن نعلم أن التكاليف الشرعية لها قيم، فكل عمل له تسعيرة، هذا يساوي مائة وهذا يساوي ألفًا، فلا يصح أن تقدم ما ثمنه مائة على الذي ثمنه ألف، وأساس هذا من القرآن الكريم يقول الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان» هي أعلى إذن وأدنى، وبينهما أوساط، فلا يجوز أن تجعل الأعلى أدنى، والأدنى أعلى، فمعنى فقه الأولويات أنك تضع الشيء في مرتبته، لا تصغر الكبير، ولا تكبر الصغير، ولا تعظم الهين، ولا تهون الخطير، ولا تقدم ما حقه التأخير، أو تأخر ما حقه التقديم. وللأسف نرى كثيرا من الناس اختلطت عليهم الأمور، والإمام الغزالي يقول: «فقد ترتيب الخيرات من الشرور»، أي فقدت أن ترتب الخيرات، بحيث تقدم فرض العين على فرض الكفاية، وتقدم فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به بعض الناس. وفي جانب المناهي طبعًا الشرك مقدم على غيره، ثم الكبائر، ثم الصغائر المتفق عليها، ثم المشتبه فيها، ثم المكروهات. ** هل هناك نوع من أنواع التداخل بين فقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات؟ كل واحد منها شرحناه بما يحدد مفهومه وقصده، ويمكن في بعض القضايا، أن تدخل تحت هذا الفقه أو تدخل تحت ذلك ، كما ذكرت في المثال الخاص بالسفينة، أحيانًا نستدل به على فقه المآلات، فالضرر الأصغر يحتمل من أجل دفع الضرر الأكبر، خرقنا السفينة ضرناها، إنما هذا لندفع ضرر أخذها بالكلية. ** ماذا بقي لنا من الفقه الجديد كما تسمونه؟ هناك أيضًا فقه الاختلاف، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين، مختلفين في الدين، وحتى إذا كان دينهم واحدًا، مختلفون في فهم الدين، ولذلك ظهرت المدارس الدينية والمذاهب المختلفة، وينبغي أن يكون هناك فقه في هذا الاختلاف، فاختلاف الأفكار واختلاف الآراء لا يفسد للود كما قال شوقي في بيته الشهير: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. تختلف الأفكار ولا تختلف القلوب، فالصحابة اختلف بعضهم مع بعض، وصلى بعضهم وراء بعض، والأئمة اختلف بعضهم مع بعض، ولكن وسع بعضهم بعضًا. ومن فقه الاختلاف أنه يجب أن يسع الجميع بعضهم بعضًا ويتسامحوا في الأمور الخلافية، ولا يجعلوا من الخلاف سببًا للصدام والتفرق؛ لأن هناك فرقًا بين الاختلاف المشروع والتفرق الممنوع.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.