كان لأمنية صديق دراسة يعيش في واحدة منها. في داخلها حوض للسباحة. منزل حسن يقع مباشرة عبر هذه ال?لل، عندها يجب ان تترك شارع الأسفلت وان تقود العربة عبر الطريق الترابي. الاطفال كانوا يلعبون في منظر متسخ عند اقتراب العربة. أعمارهم مختلفة فتيات صغار في أزياء ممزقة من الاكتاف وحول مختلف الجسد. وصبيان في أردية قصيرة مهلهلة، وفنايل قصيرة ضيقة تبين بطونهم وسراتهم. تركوا ألعابهم من العربات الحديدية الصغيرة يجرونها بخيوط بلاستيكية، ولساتك العربات يدحرجونها أمامهم، تجمعوا حول العربية التي وقفت أمام منزل حسن، قال لها والد حسن تفضلي يا دكتورة قال ذلك وهو يفتح في أوكرة الباب وأمنية تقول له شكراً يا حاج ووالده يصر ويلح، شكراً ليس اليوم يا حاج، فأنا مشغولة، قالت ذلك أمنية، وهي تدخل في العربة وتقفل الباب، إن شاء الله سآتي في يوم من الأيام وسأزوركم وأنا لست مرتبطة بعمل، قال لها متى ستأتين يوم الجمعة؟ لا أعرف الآن، ولكني ان شاء الله سأحضر لزيارتكم في الأسبوع القادم. مع السلامة يا حسن، ولما لم يقفل والد حسن باب العربة خلفه جيداً فقد أثارت العربة عند تحركها عاصفة من الغبار، بعد إسبوع أوفت أمنية بوعدها، جاءت محملة بالهدايا لحسن وأسرته، الهدايا تتكون من ملابس تعرف جيداً أنهم في حاجة إليها. وبحماس وقوة أعطت نصف مرتبها لوالده حسن. دخلت أولاً عند مجيئها لحوش المنزل الطيني وأرضيته من التراب الرملي مثل الخارج، به ماسورة بمسافة قدم من الحائط، تقطر، وزير، ألوان الحائط حمراء داكنة، أمنية توقفت قليلاً تحت انحناءة الباب، لتكتشف من أين جاء حسن بهذه الوسامة، فزينب والدته جميلة طويلة ومستقيمة ذات بشرة ناعمة، وتقاطيع انثوية لإمرأة شابة لها خمسة أطفال بينهم صبية. في سن الثالثة، الاطفال يتحلقون حول صدرها، الفتاة تبدو أصغر من عمرها ذات شعر منكوس مغبر. قالت لأمنية لو كنت أعرف انك ستأتين لنظفت الأطفال وأحممتهم إرتبكت زينب لهذه الزيارة المفاجئة، حاولت إبعاد الاطفال إلى غرفة أخرى، إفترشت لأمنية ملاءة على السرير الذي تجلس فيه، فرحت لأنها نظيفة، بقرب زينب توجد سلال وأدوات بلاستيكية مبعثرة، أرسلت زينب ابنتها لتحضر مشروباً غازياً لأمنية من كنتين على بعد نصف ميل. الغرفة التي تجلس فيها أمنية هي الغرفة الوحيدة بالمنزل، مظلمة والسقف ليس عالياً، وهناك نافذة واحدة صغيرة بطول قدم واحدة، في الغرفة ثلاثة أسرة، تقابل كل حائط، وهناك منضدة، وفترينة أواني صغيرة، تضع فيها زينب أدوات تجميلها البسيطة، عندما حضرت الإبنة وهي تحمل مشروب البيبس كولا وضعت زينب أمام أمنية منضدة صغيرة، وأخرجت من الفاترينة كباية زجاجية نظيفة، دفعت الأطفال الذين تجمهروا أمام الباب، غسلت الكباية مرة أخرى من الماسورة، وهي ما تزال تحمل طفلها، ووضعت الزجاجة والكوب أمام أمنية، وهما يتأرجحان ويميلان ونظرات الاطفال المثبتة في الباب على الزجاجة والكوب المغطى بقطرات الندى الباردة والمكثفة. إنتشرت الإشاعة وسط الجيران عن الزائرة وحالاً ما أمتلأت الغرفة بالنساء الفضوليات.. كانت أمنية في غاية السعادة ان تكون موضوعاً للكلام والجلسة.. ووجدت نفسها تتحدث عن ندرة السكر، والتموين، وفي كتابة الوصفات والروشتات الطبية، وعن أمراض الطفولة، ومتعة النساء الجنسية، ووسائل منع الحمل، وكتبت خطابات لأقارب بعض النساء الذين يعيشون في العاصمة الخرطوم، كتبتها لهم في أوراق مسطرة وجدتها في حقيبتها، أغلب العائلات ومن بينهم أسرة حسن هم من النازحين الذين حضروا من الريف، وما يزال إرتباطهم ببيئتهم الريفية قوياً. عدما وقفت أمنية معلنة نيتها في الذهاب، قالت لها زينب بأنهم سيزورونها يوماً، وأصرت ان ترسم لها وصفاً لمكان منزلها،بعد إسبوع وهي تحمل طفلها الصغير، وحسن يتبعها وهو يلهث ويعرج ويقاوم التعب، ردت زينب الزيارة لأمنية التي كانت قد نسيتهم وهي الآن تفاجأ بزيارتهم، كانت تتجنب نظرات والدها المتسائلة، وقد أجلستهم في الصالة الخارجية، وهي تنظر في ساعتها بقلق وقد تأكدت بأن هنالك نصف ساعة قد تبقت من زيارة خطيبها ووالدته لهم. المشكلة لو رأوا زينب وفقرها وبؤسها، هنالك عدة اسئلة ستتولد في أذهانهم، قد لا تستطيع الإجابة عنها، ربما أتوا للشحدة، فكرت ذلك بسخرية، لقد كانت رحيمة وعطوفة نحوهم ربما أرادوا استغلال هذا العطف وهذا الكرم. لقد بدأت تغضب وهذه الفكرة تسيطر عليها ولكنها تراجعت عن ذلك وهي ترى زينب ترتدي حذاءاً أضيق منها يبدو أنها قد استعارته، فالشحاذ لا يتأنق للآخرين. وحسن يبدو أنه قد إستحم اليوم وغسل شعره ومشطه، ولكنه يبدو نحيفاً اليوم فقد كانوا يطعمونه جيداً في دار شيشر. أخبروا أمنية بأنه لم يستطيع الذهاب للمدرسة كبقية الأطفال، لأن هنالك خندقاً قديماً محفوراً بين المدرسة والقرية، لكن أمنية لم تكن تستمع إليهم فكرت في ان تحضر لهم مشروباً، ثم تذهب بهم بعيداً خارج المنزل، فزيارتهم لها تعتبر إساءة وانتهاكاً لكرامتها، كانت تريد ان يكونوا عينة دراسية ترى من قرب البؤس والفقر، دون ان يبادلها هذا البؤس والفقر الزيارة ويقيم علاقة قرب وصداقة معها، يأتي إليها رسمياً ومتأنقاً. خارج بيئته، وداخل بيئتها الارستقراطية. قالت لها زينب خذي هذه معك. إنها هدية متواضعة، وقد رفعت باقة بلاستيكية من الأرض ذات غطاء أبيض، قالت أمنية لها لماذا تتعبين نفسك. وأمنية تحاول ان لا تنظر إلى الهدية، فزينب ترد الهدية بهدية أىضاً تلك هي أصول الصداقة. حملت أمنية الباقة البلاستيكية الثقيلة، وتمنت لو لم تكن زارتهم وتعرفت بهم وبدأت تفكر وتخمن ماذا في هذا الوعاء البلاستيكي؟ هل هو زبدة سائلة، أو عسلاً طبيعياً فكرت في ان تقذف بالإناء بعيداً، إنه خسارة فلن يفكر أحداً من الأدارة في أكله أو إستعماله. الزمن يمر ويجب غسلها وإرجاعها لصاحبتها، تنهدت أمنية محتارة وهي تفتح الثلاجة لتحضر زجاجتين من مشروب البيبس لزينب وحسن، وضعت الجركانة على المنضدة في المطبخ، نزعت الغطاء متأففة. ونظرت بداخله، رغم جوعهم وحوجتهم، فقد كانت الباقة الضخمة مليئة بارطال وارطال من السكر الأبيض النادر الذي كان كل بيت في الخرطوم يعتبره ثروة نادرة وقيمة.. مسحت دمعة وخرجت إليهم وهي تبتسم.