عادَ الابن من عنوان اغترابه إلى السودان ليرى والده في حالته السريريّة تلك، وبعد أنْ عاد بأيّام سافر المغترب السوداني بأبيه إلى دولة من بلاد الله بعد أنْ عجز أطباء السودان والأردن في تشخيص حالته... لذلك أخذه إلى هناك حيث ليس بعد هنالك هناك! اجتمع الأطباء هناك حول والده فطال اجتماعهم، وكانت الحالة في كل يوم تنحدر والنفقات تتعالى، أدخلوا الأب في غرفة ما فوق العناية المكثّفة، فأُحيط بالأجهزة السلكيّة واللا سلكيّة... قال الأطباء إنّه ولحين التشخيص النهائي بعد وصول نتائج العينات النسيجية سيضعونه تحت أجهزة دعم الحياة! وتدور الأيّام في ذلك البلد الذي تشرق فيه الشمس أحياناً وتغيب أحايين حتى أتى يوم قال فيه قائد الفريق الطبي للابن إنّ النتائج المختبريّة لم تأت بجديد لذلك فإنّ دور تدخّلهم تراجعَ لكنّهم يستطيعون الإبقاء على حياة والده لفترة قد تطول بواسطة هذه الأجهزة الداعمة للحياة، وهو أمام خيارين أنْ يُبْقِى والده على قيد الحياة بواسطة هذه الأجهزة بتكلفة يبلغ اليوم فيها خمسة آلاف دولار، أو يأمرهم (بتحرير) والده من هذه الأجهزة فينال أباه فرصة الموت الرحيم! كان رأي الابن انّه سمعَ بالموت الرحيم من قبل لكنّه لم يتصوّره بهذه البشاعة، وأنّ سَحب الحياة من والده من أجل تجنيب أمواله ليس موتاً رحيماً، لذلك فهو يصر على إبقاء أبيه حيّاً رَهن الإقامة الجبريّة! وتمضي الأيّام والأسابيع ثمّ الأشهر والشهور، والأب على قيد الحياة الاصطناعيّة والدولارات تتهالك... وذات صباح ليس فيه شمس زار الموت والده وهو محاط بالتكنولوجيا الطبيّة، فأدركَ الابن أنّ أجلَ الله إذا جاء لا يُؤخّر وأنّ هذا هو الموت الرحيم وليس غيره! عاد الابن بجوازه السوداني الالكتروني وعاد الأب في تابوت خشبي... وفي مطار الخرطوم امتلأت رئتا صدر الابن بهواء بلد لا يعرف الموت الرحيم بغير انّه هو الموت بيد الله لا بيد الأطباء... قضى الابن البار أيّام العزاء ثُمّ عاد بيقينه إلى عنوانه الإغترابي لدورة كسب جديدة حتى يأتي اليوم الذي يزوره فيه الموت الرحيم!!